الأهرام: 23/3/2009 يوم الخميس المقبل السادس والعشرين من مارس2009 سوف يكون قد مرت ثلاثة عقود علي معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية, وربما لم يحدث في التاريخ المصري أن اختلف المصريون والعرب حول قضية مثلما اختلفوا علي هذه القضية. ولا أظن أن مثل هذا الخلاف سوف يختفي في المستقبل القريب, ومادام الصراع العربي الإسرائيلي قائما, فإن وجهات النظر سوف تظل متباعدة, خاصة كلما دخل الصراع واحدا من أحداثه الدرامية, ومع ذلك يظل تحرير الخلاف ضروريا لوجه الحقيقة أولا, ولوجه التاريخ ثانيا, ولوجه الله في كل الأحوال, حيث توازي الخلاف دائما مع أكبر عمليات التضليل وخلط الأوراق وبعثرتها في كل الاتجاهات, مع تأثير كل ذلك علي سياسات حاضرة وجارية وكلها تكاليف مال ودم. ولظروف المساحة فإن هناك ستة اتهامات شائعة تخص المعاهدة تستحق التنويه والمناقشة أمام الرأي العام, وربما الأهم أمام السياسيين الذين لايزال أمامهم الاختيار ما بين خيارات صعبة, وأحلاها دائما مر وعلقم. والتهمة الأولي الموجهة إلي معاهدة السلام هي أنها لم تحقق شيئا, وهي جملة تجري دوما بتلقائية غريبة, وكأن القائل لا يعرف أولا أن شبه جزيرة سيناء تبلغ61 ألف كيلومتر مربع, أو ثلاثة أمثال الدولة الإسرائيلية, أو90% من الأراضي المحتلة في حرب يونيو1967. ولا يقل أهمية عن ذلك أن الاتفاقية وضعت الأسس التي تتم عليها المفاوضات التالية مع الأطراف العربية المحتلة حينما وضعت إطارا لحل القضية الفلسطينية جاءت علي أساسه اتفاقيات أوسلو التي بمقتضاها قامت أول سلطة فلسطينية في التاريخ علي الأراضي الفلسطينية وعلي الشعب الفلسطيني داخل الأراضي المحتلة. كما أن الاتفاقية, استنادا إلي كامب ديفيد السابق عليها, نصت بوضوح علي أن السوابق الواردة فيها يتم تطبيقها علي بقية الأراضي العربية المحتلة, وهو ما جري بالفعل في اتفاقية السلام الأردنية الإسرائيلية التي حررت الأراضي الأردنية المحتلة. وبالنسبة لسيناء فإنها لم تكن فقط أرضا محتلة تم تحريرها من الأيدي الأجنبية, وهو ضروري للشرف المصري, وإنما لأن سيناء أيضا قيمة اقتصادية عظمي ببترولها وسياحتها, ومكانتها الجيواقتصادية التي للأسف لم نستغل منها إلا القليل. التهمة الثانية تأتي فورا بعد تبيان فجاجة التهمة الأولي, حيث يقال إنه في تبرير الاتفاقية كان تحقيق الرخاء واحدا من أهم أهدافها, فأين ذلك من حال مصر الآن بما فيها من تعب وعنت اقتصادي؟ والإجابة علي السؤال لها جانبان: الأول يتعلق بالتكلفة الاقتصادية لمصر لو أنها لم توقع هذه الاتفاقية, حيث كان سيستحيل علي الدولة المصرية أن تبقي الاحتلال قائما, أو تقول الدولة المصرية للشعب المصري إنها تنتظر اللحظة المناسبة للقيام بمعركة التحرير, لكن اليقين هو أن مصر كانت سوف تشن حربا كل عقد علي أقل تقدير حتي تستعيد أراضيها السليبة, وعلينا أن نتخيل دولة في حالة حرب لثلاثة عقود وأثار ذلك علي بنيتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. والثاني أن تنمية أي بلد تعتمد علي الظروف الإقليمية الملائمة أن تكون في حالة سلام وعلي قدرة أبنائها علي بنائها وتحقيق الرخاء فيها بالحكمة الاقتصادية والعمل الشاق. وعلي مدي الأعوام الثلاثين الماضية عمل المصريون بجد, وأعادوا بناء مدن القناة الثلاث التي تم تدميرها في أثناء الحرب, وأعادوا سكانها اللاجئين( مليونين) إلي بيوتهم, ولكن الحكمة الاقتصادية لم تكن سائدة دائما, حيث تم التمسك بفلسفة اقتصاد الدولة والقطاع العام لفترة أطول مما يجب, ومع ذلك فإن التقدم الذي جري خلال العقود الثلاثة من حيث جميع المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية يتفوق علي كل العقود السابقة, ولم يحدث من قبل في التاريخ أن بلغ العمر المتوقع للمصريين72 عاما, ولم يحدث أن بلغت نسبة المتعلمين في سن التعليم72% ولم تتحقق أبدا تلك النسبة المنخفضة من وفيات الأطفال, ولم يجر أبدا أن عاش المصريون علي6% من أرض مصر. وربما لم يحقق المصريون الرخاء ولم يحدث أن بني المصريون تماثيل من الرخام علي الترعة وأوبرا كما كان يحلم عبدالحليم حافظ في أزمنة قديمة كانت نسبة المتعلمين فيها25% فقط, ولكنهم بالتأكيد أصبحوا أفضل حالا من عصور سابقة, ومما لو كانت حالة الحرب قد استمرت علي حالها. والتهمة الثالثة هي أن للمعاهدة عيوبا خطيرة حيث تقيد السيادة المصرية علي مناطق من سيناء, والإجابة علي ذلك متعددة: أولاها أن القيود الواردة علي مصر يوجد ما يماثلها علي إسرائيل, وثانيتها أن هذه القيود لم ترد في الاتفاقية إلا نتيجة موافقة الرئيس جمال عبدالناصر علي قرار مجلس الأمن رقم242 الذي نص علي إقامة مناطق مقيدة التسلح, ومناطق منزوعة السلاح, وهو ما لم يتم تطبيقه علي الجبهة المصرية فقط, وإنما جري تطبيقه علي الجبهة الأردنية, كما جري تطبيقه علي الجبهة السورية نفسها نتيجة تطبيق اتفاقية الفصل بين القوات بعد حرب1973, والأهم أنه جري تطبيقه في جميع مراحل المفاوضات السورية الإسرائيلية, ولأسباب غير مفهومة فإنه لم يحدث أبدا أن تحدث أصحاب هذا الاتهام علي قيود التسلح الواردة علي جبهة الجولان في الحالتين. وثالثتها أن التطور الهائل في التسليح, وأساليب الدفاع المتحرك, وبالذات في تكنولوجيا الصواريخ, قد جعل هذه القيود كلها غير ذات بال من الناحية العملية, حيث أصبحت الأراضي الإسرائيلية نفسها هدفا للإيذاء الشديد في حالة الحرب. والتهمة الرابعة أن الاتفاقية لم تمنع من استمرار العدوان الإسرائيلي, وكما يقول قائل: تسارع خطي الإسرائيليين في محاولة التمدد والتمكين وتغيير الحقائق علي الأرض, وهو قول صحيح لكنه ناقص تماما. فالدولة السورية علي سبيل المثال, وحيث لم تحدث معاهدة سلام, لم تمنع الإسرائيليين من التمدد وبناء المستوطنات علي المرتفعات السورية, وعلي الجبهة اللبنانية فقد كانت ساحة مستمرة للاعتداءات الإسرائيلية وتدمير قدرات الشعب اللبناني عدة مرات مع الاستمرار الدائم في احتلال مزارع شبعا. والثابت أن عملية التمدد والتمكين الإسرائيلية لم تحدث إلا في المناطق التي رفض أصحابها السير مع مصر في طريق السلام والتسوية, بينما تم إنقاذ الأراضي المصرية والأردنية من عملية التمدد والتمكين هذه بالحرب وعقد اتفاقية السلام, وإدارة الصراع بحكمة واستراتيجية محكمة, وكانت النتيجة انكماشا في الإمبراطورية الإسرائيلية التي تم بناؤها من القنطرة إلي القنيطرة خلال حرب يونيو1967. والتهمة الخامسة هي أن اتفاقية السلام عكست أسلوبا في إدارة الصراع مع إسرائيل ينفي المقاومة الواجبة إزاءها بالقوة المسلحة, والحقيقة أن القائلين, وفي مقدمتهم مصر, بالسلام والتسوية والمفاوضات, لم يرفضوا أبدا حق المقاومة وممارسته إزاء وجود عدوان وأراض محتلة, ومن الناحية التاريخية البحتة فإن مصر كانت ليس فقط أكثر من ضحي في المواجهة مع إسرائيل, بل إنها أيضا كانت أكثر من كبد إسرائيل خسائر فادحة, ولا يوجد في تاريخ المقاومة العربية لإسرائيل بأشكالها المختلفة من حروب وانتفاضات وعمليات انتحارية واستشهادية وإرهابية ما كبد إسرائيل من خسائر تماثل تلك التي خسرتها في حرب أكتوبر1973, أو في الحروب التي جرت مع مصر قبلها منذ عام1948. فالقضية هنا ليست وضع المقاومة في مقابل التسوية, وإنما كيف توضع كل الأساليب العسكرية والدبلوماسية والسياسية والإعلامية في خدمة هدف بعينه, وهو تحرير الأراضي العربية المحتلة. لقد ثبت بما لا يوجد فيه شك أن الأسلوب المصري في التسوية, الذي أدي إلي معاهدة السلام, كان هو الأكثر إنجازا وتحريرا, والأهم من ذلك كله أنه خلص مصر من عار احتلال أراضيها, بينما بقيت أراض أصحاب المنهج الآخر, بلا مفاوضات, ولا تسوية, ولا حتي مقاومة. والتهمة السادسة أن اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية قد جعلت مصر تابعة للولايات المتحدةالأمريكية, وهو قول لا يأتي إلا ممن في قلوبهم مرض, أو أنهم لا يقرأون التاريخ, أو أنهم لا يعرفون مصر علي حقيقتها قيادة وشعبا ودولة. فبدون التقليل من شأن الولاياتالمتحدة كدولة عظمي في العالم ينبغي للعقلاء أخذها في الحسبان, فإن ذلك لم يمنع مصر من التصويت المخالف للتصويت الأمريكي في الأممالمتحدة في83% من الحالات( لاحظ أن إسرائيل وافقتها في87%), كما أن السجل حافل بالرفض المصري للمطالب الأمريكية للعدوان علي ليبيا خلال الثمانينيات, والضغط علي الجانب الفلسطيني خلال المفاوضات التي جرت خلال التسعينيات, بل إن مصر التي وقعت معاهدة السلام مع إسرائيل كانت, هي وليس غيرها, هي التي وقفت في وجه الهرولة في التطبيع مع الدولة العبرية, وجعلت من التطبيع برودة ودفئا جزءا من عملية التفاوض العربية مع إسرائيل, وذلك في تحد دائم لم تريده الولاياتالمتحدة. وليس سرا علي أحد أن كل النصائح الأمريكية للتغيير في الداخل المصري كانت مرفوضة, بقدر ما كان العدوان الأمريكي علي العراق مرفوضا, وما علي القائلين بتبعية مصر وأمريكا إلا دراسة حالة من المواجهة بين الدولتين خلال فترة إدارة جورج بوش السابقة وجري كل ذلك بينما حصلت مصر من الولاياتالمتحدة علي ما لم تحصل عليه دولة أخري من أموال وسلاح, عدا إسرائيل, وكان ذلك نتيجة حكمة وقدرة ربما يحين وقت الحديث عنها في وقت آخر. وربما لم تكن هذه الاتهامات تغطي كل ما يقال, ولكن المساحة غلبت, والزمن في النهاية سوف يحاسب المخطئين!!