يفتح فوز زعيم الحزب الشيوعي القبرصي ديمتيريس خريستو فياس برئاسة البلاد في الانتخابات التي جرت مؤخرا الباب امام احتمالات ايجاد تسوية سلمية للقضية القبرصية واعادة توحيد الجزيرة المقسمة منذ عام1974 عندما احتلت تركيا الشمال بحجة حماية القبارصة الأتراك وإزالة الأسوار العازلة بين مواطنيها اليونانيين والأتراك. يعزز هذه الاحتمالات أن خريستو فياس من أنصار الوحدة والمواطنة والتفاوض لحل المشكلات وضد التشدد والتعصب, فقد مد جسور الحوار مع المواطنين الأتراك وأقدم في وقت سابق علي العبور الي الجزء الشمالي الذي ينحدر منه للقاء زعيم القبارصة الأتراك محمد علي طلعت. هذه المعاني أكدها خريستو فياس خلال لقاء معه بمكتبه في مقر البرلمان قبل خوض الانتخابات الرئاسية, فالرجل حدد خلال الحوار معه موقفه في عدد من المبادئ مركزا علي الوحدة والمواطنة. ومن ثم يلوح بانتخابه رئيسا أمل جديد في الأفق لاحياء العملية السياسية بعد فترة شد وجذب خلال رئاسة الرئيس السابق بابا دوبلوس بلغت حد تهديد قبرص بعرقلة المباحثات بين تركيا والاتحاد الأوروبي حول انضمامها للاتحاد بسبب منع القبارصة من دخول المطارات والموانئ التركية ردا علي رفض قبرص آنذاك رفع القيود التجارية المفروضة علي الجزء المحتل. وانعكس ذلك سلبيا علي محاولات عقد لقاء بين بابارد بلوس وطلعت. في نفس الوقت فإن أي محاولات لتكريس التقسيم تعد بمثابة خط أحمر بالنسبة للرئيس الجديد. ففي إطار وحدة الجزيرة فإن حكومات قبرص المتعاقبة توافق علي منح مزايا تجارية يستفيد منها الجميع وليس وضعا سياسيا للشمال المحتل يتعارض ليس فقط مع رغبة القبارصة في الوحدة وانما أيضا مع قرارات الشرعية الدولية. وينتظر أن يعطي انتخاب خريستو فياس دفعة للأمم المتحدة كي تستأنف جهودها لرعاية مفاوضات بناء الثقة بين القبارصة لاعادة توحيد الجزيرة, كما ينتظر أيضا ان يدفع انتخابه قضايا المفقودين والممتلكات والتنمية الي الامام. منذ ماقبل استقلال قبرص عام1959 عمدت بريطانيا خلال فترة الاحتلال(1878 1959) علي تذكية الصراع بين القبارصة علي أساس طائفي علي خلفية الاحتلال العثماني لقبرص(1570 1878) وذهب الاسقف مكاريوس زعيم القبارصة الي الأممالمتحدة عام1952 ضمن حملة دولية قادها من أجل استقلال الجزيرة, وانتهت مفاوضات تركية يونانية قبرصية بريطانية بدأت في ديسمبر1958 بالاتفاق علي استقلال الجزيرة بعد استبعاد خياري الاتحاد مع اليونان والتقسيم, وأبرم في11 فبراير1959 اتفاق زيوريخ والذي تم توقيعه في لندن في التاسع عشر من نفس الشهر بشأن تأسيس جمهورية قبرص. لكن هذا الاتفاق زيوريخ لندن كرس الثنائية والازدواجية في حكم البلاد فالرئيس( مكاريوس) قبرصي يوناني, ونائبه( فاضل كوتشك) قبرصي تركي ويحق لكل منهما استخدام حق النقض( الفيتو) علي قرارات الآخر السياسية الأمر الذي أصاب الحياة السياسية بالشلل. ولعل أحد أبرز الأمثلة علي ذلك محاولة كوتشك عام1961 تعطيل قيام علاقات دبلوماسية بين مصر وقبرص اشتراطة للموافقة علي ذلك اقامة علاقات مماثلة بين قبرص وإسرائيل الأمر الذي رفضه القبارصة اليونانيون في حينه. وإذا عطفنا ذلك علي توزيعة المناصب في مؤسسات الدولة التشريعية( البرلمان) والتنفيذية( الحكومة) والمحلية بنسبة7( قبارصة يونانيين) الي3( قبارصة أتراك) وفي القوات المسلحة بنسبة6 الي4, وتشكيل البرلمان من خمسين عضوا منهم35 قبارصة يونانيين والباقي قبارصة أتراك, تكون صورة الحياة السياسية وفقا للاتفاق غير موحية بالسير في اتجاه التعايش الطبيعي. وقد تم استخدام هذا الاتفاق من هذه الزاوية ضد مكاريوس بسبب توجهاته السياسية في دعم نضال الشعوب من أجل التحرر, وضم قبرص لحركة عدم الانحياز, وحضوره مؤتمر بلجراد عام1961 بجوار عبدالناصر ونهرو وتيتو, ودفعت قبرص ثمن هذه المواقف في مناخ الاستقطاب الدولي والحرب الباردة آنذاك حيث تناقضت تلك التوجهات مع عضوية اليونان وتركيا في حلف شمال الأطلسي( الناتو), وزاد الطين بلة انهيار حلف بغداد نتيجة الثورة في العراق بقيادة عبدالكريم قاسم1958, واتهموا مكاريوس بانه جعل بلاده كوبا البحر المتوسط ووصفه وزير الخارجية الأمريكي الاسبق هنري كسينجر بأنه القسيس الأحمر. وشهد شهر ديسمبر1963 أول صدام مسلح بين القبارصة الاتراك والقبارصة اليونانيين حيث قامت قوات قبرصية تركية بعزل الاجزاء ذات الاغلبية السكانية من الأتراك مايجعلها كانتونات داخل الدولة وتدخلت بريطانيا عسكريا في التاسع والعشرين من نفس الشهر بهدف تأمين ماسمي ب الخطوط الخضراء الفاصلة بين الجانبين ما رسخ مبدأ التقسيم والفصل بزعامة رؤوف دنكتاش زعيم القبارصة الاتراك. وتصاعدت الأحداث حدة فصدر قرار من مجلس الأمن في مارس1964 بارسال قوات حفظ سلام, فيما أعلن مكاريوس في الشهر التالي إلغاء الاتفاق ورفض خطة أمريكية اعتبرها تكرس التقسيم, في الوقت الذي دعا فيه الوسيط الدولي جاللو بلازا الي دستور جديد لتجاوز عقدة الاتفاق غير أن التدخلات الخارجية منعت إنهاء المسألة بطرق سلمية. وتعرضت القضية القبرصية مرة ثانية لأن تصبح ضحية الحرب الباردة والسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط بعد حرب أكتوبر1973, فقد لوحظ أن الغزو التركي للجزيرة جاء بعد تسعة أشهر من بدء وزير الخارجية الأمريكي آنذاك هنري كيسنجر تنفيذ خطة اعادة ترتيب الأوضاع في المنطقة بعد الانتصار العربي بالسلاح السوفيتي علي إسرائيل بالسلاح الأمريكي لجهة ضبط الايقاع في المنطقة علي المصالح الأمريكية من خلال تحويل الأنظار الي بؤر توتر جديدة وتعزيز مراكز حلفاء الولاياتالمتحدة, وروجت آلة الدعاية الأمريكية مجددا لوصف مكاريوس بأنه القسيس الأحمر وكاسترو المتوسط كضوء أخضر للتخلص من رمز اخر من رموز حقبة الخمسينيات والستينيات لاسيما بعد ما رفضت حكومة اليونان الداعمة له استخدام أراضيها وأجوائها خلال حرب اكتوبر1973 لنقل الدعم العسكري الأمريكي لإسرائيل. وفي هذه الاجواء غزت تركيا الجزيرة في العشرين من شهر يوليو1974 بزعم اعادة النظام الدستوري, لكن عودة هذا النظام مع تولي رئيس مجلس النواب جلافكوس كليريدس السلطة في الثالث والعشرين من الشهر نفسه وعودة مكاريوس في ديسمبر من نفس العام فإن تركيا تستمر حتي الآن في احتلال37% من أراضي الجزيرة برغم صدور قرار مجلس الأمن رقم373 الذي دعا الي احترام سيادة قبرص واستقلالها والي الانسحاب الفوري ووقعت القضية القبرصية للمرة الثالثة في أسر الأوضاع الدولية والنظام الدولي تحت الهيمنة الأمريكية, فقد طرح السكرتير العام للأمم المتحدة كوفي أنان خطته لحل القضية في نوفمبر2002 ركزت علي توحيد قبرص رسميا مع إدارة شطرين بوصفهما كانتونين( يوناني وتركي) علي الطريقة السويسرية, وسط التحضيرات الأمريكية لغزو العراق( في مارس2003) والطرح الأمريكي للإصلاح في الشرق الأوسط لنشر الديمقراطية ومكافحة التطرف الاسلامي, وطرحت هذه الخطة للاستفتاء علي الشعب القبرصي في الجانبين اليوناني والتركي في فبراير2004 في نسخة خامسة لها بعد ادخال تعديلات عليها, راعت مطالب تركيا بادخال تعديلات علي الخطة تجعل وجود القوات التركية المحتلة في شمال الجزيرة شرعيا بالمخالفة لقرارات مجلس الأمن أرقام373 و541 و550 التي تصف الوجود العسكري التركي بأنه احتلال وتدعو الي سحب القوات من الاراضي القبرصية المحتلة وعدم الاعتراف بما يسمي جمهورية قبرص التركية وبما يعطي تركيا الحق في وجود عسكري دائم لها في الجزيرة وفي ان يكون لها كلمة عليا في تحديد مستقبلها. ويفسر ذلك تصويت القبارصة اليونانيين ضد الخطة بنسبة75.8%, وتصويت القبارصة الأتراك بنسبة64,9% مع الخطة في الاستفتاء عليها, كما يفسر أيضا سبب رغبة واشنطنولندن في استصدار قرار من مجلس الأمن بتأييد الخطة قبل اجراء الاستفتاء لولا تهديد روسيا باستخدام الفيتو مما أجهض هذا المسعي الذي هدف الي المصادرة علي رأي القبارصة اليونانيين والضغط عليهم لقبول الخطة وجعل رفض الخطة تصويتا ضد قرار مجلس الأمن. علي أية حال فبرغم أن نتائج الاستفتاء لم تعطل انضمام قبرص للاتحاد الأوروبي, فإن قبول القبارصة الأتراك لخطة أنان يعكس تغيرا في الموقف لصالح انصار الوحدة والاندماج في الاتحاد الأوروبي للحصول علي ثماره, حيث يبدو انضمام تركيا للاتحاد بعيدا, وبقاء مايسمي جمهورية شمال قبرص التركية مستحيلا, ومن ثم فإن الأمل الذي يلوح في الأفق بانتخاب خريستوفياس قابل للتحقق برغم العقبات والمفاوضات الصعبة.