من أشد مظاهر حركة السياسة الإقليمية إثارة للاهتمام في منطقة الشرق الأوسط العلاقات التركية الإسرائيلية، التي بدأت تقريباً منذ بدء أزمة الشرق بقيام الدولة العبرية في فلسطين مايو 1948. بعد ذلك بأقل من سنة في 28 مارس 1949 اعترفت تركيا بإسرائيل لتصبح أول دولة إسلامية في منطقة الشرق الأوسط تعترف بالدولة العبرية..!؟ ليس في السابقة التركية بالاعتراف بإسرائيل، حال قيامها، بُعْد نظر سياسي وتاريخي، من قبل أنقرة، لمآل أزمة الشرق الأوسط، في احتمالات حلها سلمياً، بقدر ما هو تأثير لتفاعل متغيرات على الساحة الدولية، عقب الحرب الكونية الثانية، دفعت بتركيا للمجازفة بعلاقاتها التاريخية مع العرب وخلفيتها التاريخية الإسلامية بالإضافة إلى المد العلماني في تركيا، نفسها، عقب الحرب الكونية الأولى. باختصار: تركيا القرن العشرين، مقارنة ببقية دول منطقة الشرق الأوسط، عدا إسرائيل وإلى حدٍ ما إيران في عهد الشاه، ليست تركيا الإسلامية التي تزعمت العالم الإسلامي في عهد الخلافة العثمانية التي استمرت عدة قرون، إلى أن أخذ الإسلاميون يقتربون أكثر وأكثر من مؤسسات الدولة والسلطة في أنقرة، حيث تمكنوا مؤخراً الجمع بين مؤسستي البرلمان والرئاسة، في عهد حزب العدالة والتنمية. إلا أن هذا التحول الاستراتيجي في مؤسسات الدولة والسلطة والدستور، عن ذلك الذي كان سائداً في تركيا لما يقرب من ثمانية عقود، لا يعني أن تركيا، أقدمت على تحولات استراتيجية حاسمة في نظرتها لحركة السياسة الإقليمية لمنطقة الشرق الأوسط تركيا لا تزال تحتفظ بعلاقات جيدة مع إسرائيل. الاتصالات بين تل أبيب وأنقرة، وإن لم تعُد كما كان الوضع عليه قبل مجيء الإسلاميين إلى السلطة، إلا أنها لم تنقطع وإن أصابها الركود بل وحتى الجمود، أحياناً، كما حدث يوم أن سحبت أنقرة سفيرها لدى تل أبيب عام 2003، بعد حملة التنكيل التي قادتها حكومة شارون ضد انتفاضة الفلسطينيين الثانية. وتوجت باغتيال الشيخ احمد ياسين في مايو 2003 هذا بالإضافة إلى إقدام حزب العدالة والتنمية عندما جاء إلى السلطة 2002، على الإبطاء في وتيرة التعاون العسكري بين تل أبيب وأنقرة، حيث توج هذا التوجه بإلغاء صفقة أسلحة بين إسرائيل وتركيا تبلغ 20 مليار دولار. وإقدام أنقرة على إلغاء اتفاقية مع إسرائيل لتجديد أسطول تركيا الجوي من مقاتلات إف 14 الأمريكية بعد سقوط تسع طائرات من مجموع ال 48 طائرة بسبب سوء أعمال الصيانة الإسرائيلية لها وفق الاتفاقية الموقعة بين البلدين. حتى نظرة تركيا الاستراتيجية في علاقتها مع إسرائيل في مواجهة منافسين إقليميين عرب في المنطقة مثل العراق وسوريا تغيرت جذرياً حتى قبل وصول حكومة حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في أنقرة في عام 1998 نجحت مصر في نزع فتيل أزمة كادت أن تشتعل بين دمشقوأنقرة. كما أن تركيا كانت من أهم المعارضين الإقليميين لغزو العراق ومن أهم القوى الإقليمية تأكيداً على وحدة أراضي العراق، بعد الحرب. إجمالاً: حال العلاقات التركية الإسرائيلية، هذه الأيام، لا يسر واشنطن ولا تل أبيب، رغم تردد أنفاس لهذه العلاقة بين البلدين، في مظاهر حياة دبلوماسية يغلب عليها طابع الركود والجمود أكثر منه مظهراً للحيوية والنشاط وقرب استعادة العافية. زيارة وزير الحرب الإسرائيلي لأنقرة، التي بدأها أمس الأول - قيل انها تتضمن شراء تركيا لقمر صناعي إسرائيلي للأغراض الإستراتيجية- ليست أكثر من مجرد محاولات لإبقاء الحياة على هذه العلاقة التاريخية بين البلدين بفعل أجهزة تنفس صناعي، تستمد طاقتها من واشنطن وبروكسل. تركيا اليوم، بوضعها الاقتصادي المتميز، أقل تحمساً للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، من الأوروبيين أنفسهم الساعين بحماس غير معهود لضم تركيا إلى الاتحاد..!؟ كذلك، فإن القاعدة الشعبية العريضة، التي يستمد منها حزب العدالة والتنمية شرعيته السياسية - وسمحت له بإحداث تغييرات جذرية في نظام الدولة التركية العلمانية المعاصرة، مثل ما حدث مؤخراً من تمرير قانون الحجاب الجديد في البرلمان- خففت كثيراً من دالة الضغوط الأمريكية على تركيا. باختصار: تركيا اليوم، بالنسبة للإسرائيليين والأمريكيين والأوروبيين، ليست تركيا أواخر الأربعينات وبداية الخمسينات، وحتى نهاية القرن الماضي. تكفي هذه الملاحظة لتبصر مكانة تركيا الاستراتيجية إقليمياً، هذه الأيام، من قبل العرب والمسلمين.