التعقيدات الإجرائية في دوائرنا الرسمية لا تستثني حيا من ميت، وسواء كان الإنسان يسير على قدمين أو في ثلاجة حفظ الموتى! فالروتين وراءه وراءه. والدليل ما حدث لسائق آسيوي كان يعمل بجد ومثابرة لخمسة عشر عاما لدى أسرة كويتية، قبل ان يصاب بمرض عضال أنهى حياته. وكانت رغبة أهله في بلاده ان يدفن عندهم كي تقر أعينهم به، وهو ميت على الأقل، طالما ان الغربة حالت دون ذلك في حياته. وبدأت رحلة إرسال الجثمان رحلة من المعاناة والروتين والبيروقراطية والعراقيل والأوراق التي لها معنى والتي ليس لها معنى. وما كان يجب ان ينتهي بيوم أو يومين استمر أياما وصلت الى الأسبوع تقريبا، والرجل مسجى في ثلاجة المستشفى وأهله ينتظرون الجثمان وحزنهم وآلامهم تزداد يوما بعد يوم، فلو أنهم تسلموا جثمان ابنهم ودفنوه خلال هذه الفترة لكان أهون عليهم من ان تتفاقم لحظات الانتظار حزنا قاسيا. بعد الوفاة مباشرة أخبر الموظف المختص العائلة الكفيلة للمتوفى بأن الإجراءات بسيطة جدا ولا تحتاج الا الى خطوات مكتوبة في ورقة لا يتعدى حجمها السنتيمترات، وحذرهم بأن هذه الورقة مهمة جدا، وان ضاعت ضاع ميتهم، علما بان الورقة غير رسمية ومدونة بشكل عشوائي، وفعلا عندما تسلموا الورقة لم يكن مدونا فيها سوى بضعة إجراءات كإحضار صور بطاقات مدنية وصور عن شهادة الوفاة وأخرى تتعلق بموافقات من سفارة المتوفى والخارجية والصحة الوقائية لحفظ الجثة في المستشفى الى حين «تسفيرها» حتى وهو ميت لم يسلم الوافد المسكين من كلمة «تسفير»! وانطلق الكفلاء تدفعهم الرغبة في عمل الخير والوفاء لهذا السائق الذي تفانى في خدمتهم في حياته، ليكتشفوا ان الورقة الصغيرة التي تحمل الإجراءات المطلوبة ما هي الا مفتاح لملف كبير من الأوراق، وان المشاوير البسيطة بين السفارة وبعض الهيئات الحكومية وماكينة تصوير البطاقات المدنية ما هي الا رحلة تستمر لعدة أيام من اللف والدوران والتواقيع والأختام والدوائر، وليتضح لهم أن الأوراق التي باللغة العربية غير كافية، وان هناك أوراقا باللغة الانكليزية يجب ان ينهوها أيضا، وما يتخيله المرء انه يمكن ان ينقضي في ساعة يأخذ أربع ساعات أو خمسا. كل هذا وجسد المرحوم مثلج في ثلاجة حفظ الموتى في المستشفى من دون مراعاة لأوقات الأحياء المهدورة في سبيل حفظ كرامة الأموات ومن دون حسبان لمشاعر أهل المتوفى في بلده الذين تلتهب مشاعر حزنهم بين دوائرنا. حقيقة يسأل الإنسان منا: ماذا لو كان هو في هذا الموقف؟ ويسأل أكثر: لماذا كل هذه التعقيدات لمتوفى قضى نحبه بمرض عضال تحت أنظار الجهات الصحية، وليس في حادث أو جريمة، حتى نقول انه يحتاج الى إجراءات وتحقيقات وتشريح. ألا تكفي ورقة من المستشفى لاختصار كل هذه المعاناة وارسال الجسد الى ذويه؟ ثم بعد ذلك ان كان ثمة إجراءات تترتب على الكفلاء كالإقامة أو الشؤون فلا بأس ان يقوموا بها لاحقا، لان إكرام الميت دفنه لا تجميده في ثلاجة! للعلم فقط، فإن الميت أمضى أسبوعا في الثلاجة رغم وجود واسطة لتسريع المعاملة.. فكيف لو لم يكن للميت واسطة.. هل سيجدونه محنطا بعد مئات السنين؟!