الأهرام 6/11/2008 لم يسبق في التاريخ الحديث أن هيمنت قوة عظمي بمفردها علي النظام العالمي. كان دائما هناك صراع بين الدول العظمي الأوروبية, حتي لاتنفرد إحداها بالسيطرة علي العالم. والعالم الذي نتحدث عنه هو العالم في عصر الإمبراطوريات الكبري, التي من خلال الاستعمار هيمنت علي عديد من البلاد في المشرق العربي والمغرب العربي, وعديد من بلاد آسيا وإفريقيا. لذلك لم يكن غريبا أن تنشب الحرب العالمية الأولي وتعقبها الحرب العالمية الثانية(1939 1945), والتي قامت أساسا بحكم اتجاه ألمانيا النازية للسيطرة المطلقة علي أوروبا ومنها علي العالم! ولم يكتف هتلر باكتساح بلجيكا وفرنسا, ولكنه اتجه لغزو الاتحاد السوفيتي, حيث ضاعت القوات الألمانية في العواصف الثلجية, واضطرتها القوات السوفيتية بعد اقترابها من موسكو إلي الارتداد علي أعقابها, بل ولاحقتها في مسيرة بطولية حتي برلين ذاتها. عقب نهاية الحرب العالمية الثانية(1945) قام نظام دولي جديد وأسست الأممالمتحدة علي أنقاض عصبة الأمم القديمة, في ضوء فلسفة عمادها التعددية وعدم انفراد دولة عظمي واحدة باتخاذ القرار الدولي. ومن هنا جاء تشكيل مجلس الأمن أهم هيئة من هيئات الأممالمتحدة فريدا, لأنه تكون من دول عظمي دائمة العضوية هي الولاياتالمتحدةالأمريكية, وبريطانيا, وفرنسا, والاتحاد السوفيتي, والصين. ولهذه الدول بمفردها حق الفيتو أو حق الاعتراض علي أي قرار يصدره المجلس. وبالإضافة إلي ذلك هناك عضوية متغيرة في المجلس لدول العالم. كان المقصود من هذا النظام التعددي في مجلس الأمن ضمان السلم العالمي بعد الويلات التي شهدها العالم في الحربين الأولي والثانية. غير أن النزعة الإمبريالية والاتجاه إلي الهيمنة لدي بعض الدول العظمي وفي مقدمتها الولاياتالمتحدةالأمريكية, دفعتها إلي إشعال حروب إقليمية, وهي إن لم تتحول إلي حروب عالمية فإنها هددت السلم العالمي بشدة. وهذه الحروب تمثلت في محاولات بعض الدول الأوروبية الدفاع بالقوة عن استعمارها بعض الدول, ومواجهة حركات التحرر الوطني بالسلاح, ومن أبرز هذه الحروب الحرب الفرنسية الفيتنامية, والتي انتهت بهزيمة ساحقة للقوات المسلحة الفرنسية في معركة ديان بيانفو, مما اضطرها إلي الانسحاب, وانتهت بالتالي حقبة الاستعمار الفرنسي في آسيا. غير أن الولاياتالمتحدةالأمريكية تحت شعار سياسة الاحتواءCONTAINMENT وتعني محاصرة النفوذ الشيوعي في العالم, والنضال السياسي والإيديولوجي ضده, دخلت الحرب في كوريا عام1950 لمنع الشيوعيين من السيطرة علي مجمل البلاد, وانتهت المسألة بتقسيم كوريا, فأصبحت لدينا كوريا الجنوبية التي نشأت وعاشت حتي الآن في ظل الرعاية والحماية الأمريكية, وكوريا الشمالية التي عاشت في ظل الاتحاد السوفيتي, والتي تعتبرها الآن الولاياتالمتحدةالأمريكية دولة مارقةROUGE أو جزءا من إمبراطوية الشر, إذا استخدمنا في هذا السياق تعبيرات الرئيس جورج بوش. ولم تكتف الولاياتالمتحدةالأمريكية بالحرب الكورية, وإنما نقلت طاقتها العسكرية الجبارة ونزعتها الغلابة للهيمنة المطلقة علي العالم إلي فيتنام, وهكذا نشأت الحرب الأمريكية الفيتنامية لمنع الشيوعيين من السيطرة الكاملة عليها. وهكذا أصبح لدينا علي غرار النموذج الكوري فيتنام الجنوبية التي عاشت تحت الرعاية الأمريكية, وفيتنام الشمالية الشيوعية التي شنت الولاياتالمتحدةالأمريكية الحرب عليها, والتي استمرت سنوات وانتهت بهزيمة عسكرية ساحقة لها, مما سمح بتوحيد فيتنام في دولة واحدة. مضت السنوات والولاياتالمتحدةالأمريكية تعيش بعقدة الهزيمة المهينة في فيتنام مع أنها أقوي دولة عسكرية في العالم. وكان النظام الدولي متوازنا لأنه ثنائي القطبية يتشكل من الاتحاد السوفيتي والدول التابعة له من جانب الولاياتالمتحدةالأمريكية والدول التابعة لها من جانب آخر. وقد ساعد هذا النظام الثنائي القطبية علي كبح جماح النزعة الأمريكية لممارسة الهيمنة المطلقة علي العالم, لأنه في نزاعات دولية شتي كشر العملاق السوفيتي عن أنيابه, بل وهدد باستخدام السلاح الذري في مواجهة الولاياتالمتحدةالأمريكية, مما أدي إلي تخفيض عتبة النزاعات الإقليمية الكبري, والتي كانت تهدد في بعض الأحيان بتحولها إلي حرب عالمية. وفي عام1993 حدثت الواقعة الكبري في نهاية القرن العشرين وهي السقوط المدوي للاتحاد السوفيتي وانهيار الإمبراطورية السوفيتية. وتشرذمت دول أوروبا الشرقية, ثم تحولها من خلال مسارات شتي إلي النظام الليبرالي واختيارها للرأسمالية كمذهب اقتصادي. وكان من نتائج هذا الانهيار الكبير سقوط النظام الدولي الثنائي القطبية, وصعود النظام الأحادي القطبية الذي تهيمن فيه الولاياتالمتحدةالأمريكية علي العالم هيمنة مطلقة, بحكم قوتها العسكرية الجبارة, وإمكانياتها الاقتصادية والتكنولوجية والمعرفية. وهذا التحول الخطير أغري الولاياتالمتحدةالأمريكية بالاتجاه إلي السيطرة السياسية والاقتصادية علي العالم, حتي لو كانت الحرب وسيلتها إلي ذلك, وخصوصا بعد اختفاء الاتحاد السوفيتي خصمها العنيد السابق, والذي ورثته روسيا المفككة المنهارة التي سادتها موجات الفساد في عهد يلتسين, مما أغري الولاياتالمتحدةالأمريكية أن تفترسها علي مهل, وتغزوها اقتصاديا وثقافيا. وبناء علي حسابات استراتيجية معقدة أجرتها قبيلة المحافظين الجدد التي هيمنت علي عرش الحكم بعد تولي الرئيس جورج بوش رئاسة الولاياتالمتحدةالأمريكية, بعد انتخابات مشكوك في سلامة إجراءاتها, تقرر غزو العراق عسكريا بزعم أنه يمتلك أسلحة دمار شامل تهدد السلم الدولي. وقدمت في سبيل تأييد مزاعمها أدلة مزيفة قام بعرضها علي مجلس الأمن في اجتماع تاريخي شهير بث علي القنوات التليفزيونية الفضائية مباشرة, كولن باول وزير الخارجية الأمريكي في هذا الحين. ورفضت الدول أصحاب العضوية الدائمة في مجلس الأمن المزاعم الأمريكية, ورفضت إعطاء غطاء الشرعية الدولية للقرار الأمريكي. ومع ذلك وخارج نطاق الشرعية الدولية غزت القوات المسلحة الأمريكية العراق عسكريا ومعها بعض الدول التابعة وفي مقدمتها بريطانيا تحت اسم قوات التحالف, مما أدي في النهاية إلي تدمير المجتمع العراقي, وفشل السياسة الأمريكية الخائبة في تحويل العراق إلي دولة ديمقراطية نموذجية تحتذي بها باقي الدول العربية! الحرب مازالت مستمرة, غير أنها انتهت فعليا بهزيمة عسكرية للولايات المتحدةالأمريكية, شبيهة بالهزيمة التي لاقتها قواتها في أفغانستان بعد أن عادت طالبان مرة أخري إلي المسرح بقوة! ومع كل هذا الفشل الأمريكي الذريع في كل من العراق وأفغانستان, فإن غرور القوة الأمريكي دفع بصناع القرار السياسي الحمقي في واشنطن إلي مواصلة سياستهم في استفزاز روسيا, عن طريق تحويل الدول التي كانت جزءا من الاتحاد السوفيتي السابق مثل أوكرانيا وجورجيا إلي دول تابعة بالكامل لها. وذلك من خلال المساعدات الاقتصادية لتتحول إلي النظام الرأسمالي, والدعم السياسي للانتقال إلي النظام الديمقراطي, والدعم العسكري لتصبح بمثابة قواعد عسكرية أمريكية في مواجهة روسيا. وبدون مقدمات فوجئ العالم بأن حاكم جورجيا الأمريكي الهوي والوثيق الصلة بإسرائيل, يشن حملة عسكرية مفاجئة علي أوسيتيا الجنوبية باعتبارها جزءا من جورجيا للقضاء علي النزعات الانفصالية فيها. ومن المؤكد أن هذا القرار وافقت عليه واشنطن سلفا, غير أن العالم فوجئ بأن روسيا التي ظنت الولاياتالمتحدةالأمريكية أنها قضت علي نفوذها إلي الأبد تقوم بحملة عسكرية مضادة علي جورجيا وتغزو أراضيها وترغم قواتها علي الانسحاب. وبعد ذلك أعلن عن استقلال كل من أوسيتيا وابخازيا واعترف البرلمان الروسي بهذا القرار, وبعد ذلك قرر عقد اتفاقيات سياسية وأمنية مع الإقليمين. صحا العالم فجأة علي مواجهة عنيفة لأول مرة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي بين روسيا بقيادة بوتين والولاياتالمتحدةالأمريكية. وبالرغم من الاعتراض الشديد الذي أبداه الاتحاد الأوروبي مناصرة للموقف الأمريكي, فإن الولاياتالمتحدةالأمريكية بالرغم من تصريحاتها الرافضة اضطرت إلي الإذعان, بل وطلبت من دول الاتحاد السوفيتي عدم استفزاز روسيا. سيسجل التاريخ أن الحملة العسكرية الروسية ضد جورجيا هي الضربة القاصمة التي أدت إلي انهيار النظام الأحادي القطبية! لم تعد الولاياتالمتحدةالأمريكية هي القطب الأوحد والأعظم الذي يهيمن علي مصير العالم. وبدأت, ما أشرنا إليه من قبل في عديد من دراساتنا, بواكير حركة دولية تسعي إلي إقامة نظام عالمي مبني علي أساس تعددية الأقطاب. وبالرغم من أن هذه العملية ستستغرق سنوات طويلة وتحتاج إلي سعي مخطط من قبل روسيا والصين والهند والبرازيل وغيرها من الدول التي كانت ترفض من قبل نظام الهيمنة الأمريكي, فإنه يمكن القول إنها ستنجح في النهاية لأنها تسير مع منطق التاريخ. لقد كانت العقيدة الأمريكية والتي تتمثل في أن تحكم الولاياتالمتحدة العالم بصورة مطلقة ولامعقب عليها وإلي الأبد ضد منطق التاريخ. لذلك يمكن القول إن الضربة العسكرية الروسية ضد جورجيا كانت هي الإشارة الرمزية إلي أن عهد الهيمنة الدولية التي احتكرتها الولاياتالمتحدةالأمريكية قد ا نتهي إلي الأبد. تماما مثلما كان الانهيار المالي والاقتصادي الكبير لشارع وول ستريت الأمريكي والذي هو الرمز البارز للعولمة الرأسمالية الأمريكية, هو الإشارة الرمزية إلي أن عصر الرأسمالية المالية قد انتهي كما صرح بذلك ساركوزي رئيس الجمهورية الفرنسية. والدليل علي أزمة العولمة الرأسمالية مؤتمر القمة الذي هرعت لحضوره كل الدول الرأسمالية الضالعة في عملية الاحتكار الاقتصادي لثروات العالم, والتي تقوم أساسا علي استغلال البلاد النامية ونهب ثرواتها, واعتبارها مجرد أسواق مفتوحة سياسيا واقتصاديا وثقافيا أمام قوي العولمة الباطشة. بين معركة جورجيا وانهيار وول ستريت سقطت الهيمنة الأمريكية إلي الأبد, وبدأ العد التنازلي لانهيار العولمة الرأسمالية المتوحشة! غير أن العالم في حاجة إلي جهود فكرية وسياسية لرسم ملامح النظام البديل, الذي يعطي شعوب العالم جميعا الحق في الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية. المزيد من الأقلام والآراء