برلمانية تزور مطرانية 6 أكتوبر وأوسيم لتقديم التهنئة بعيد القيامة| صور    «العمل»: جولات تفقدية لمواقع العمل ولجنة للحماية المدنية لتطبيق اشتراطات السلامة والصحة بالإسماعيلية    العمل الحر    وزير الإسكان: 98 قراراً وزارياً لاعتماد التصميم العمراني لعدد من المشروعات بالمدن الجديدة    رئيس الصين يصل إلى فرنسا في جولته الأوروبية الأولى منذ 2019    باحث يكشف أبرز ملفات النقاش على طاولة مباحثات ماكرون والرئيس الصيني    جيش روسيا يعلن السيطرة على «أوشيريتين» الأوكرانية    الخارجية الفلسطينية تطالب بتفعيل نظام الحماية الدولية للشعب الفلسطيني    ليفربول يتقدم على توتنهام بهدفين في الشوط الأول    محافظ الغربية: استمرار الحملات المكبرة على الأسواق خلال شم النسيم    نقل مصابين اثنين من ضحايا حريق سوهاج إلى المستشفى الجامعي ببني سويف    قرارات حاسمة ضد مدير مدرسة ومعلم بعد تسريب امتحان الصف الرابع ببني سويف    ليست نكتة.. رئيس الهيئة المصرية للكتاب يعلق على حديث يوسف زيدان (فيديو)    احتفل به المصريون منذ 2700 قبل الميلاد.. الحدائق والمتنزهات تستقبل احتفالات أعياد شم النسيم    كل سنه وانتم طيبين.. عمرو سعد يهنئ متابعيه بمناسبة شم النسيم    تامر عاشور يضع اللمسات الأخيرة على أحدث أغانيه، ويفضل "السينجل" لهذا السبب    بالفيديو.. أمينة الفتوى: الحب الصادق بين الزوجين عطاء بلا مقابل    أمينة الفتوى: لا مانع شرعي فى الاعتراف بالحب بين الولد والبنت    بالفيديو.. 10 أعراض للتسمم من الفسيخ الرنجة في شم النسيم    أكل الجزر أفضل من شربه    تكثيف أمني لكشف ملابسات العثور على جثة شاب في ظروف غامضة بقنا    يوسف زيدان يرد على اتهامه بالتقليل من قيمة عميد الأدب العربي    انطلاق مباراة ليفربول وتوتنهام.. محمد صلاح يقود الريدز    "صحة المنوفية" تتابع انتظام العمل وانتشار الفرق الطبية لتأمين الكنائس    الآن.. طريقة الاستعلام عن معاش تكافل وكرامة لشهر مايو 2024    فى لفتة إنسانية.. الداخلية تستجيب لالتماس سيدة مسنة باستخراج بطاقة الرقم القومى الخاصة بها وتسليمها لها بمنزلها    انتشال أشلاء شهداء من تحت أنقاض منزل دمّره الاحتلال في دير الغصون بطولكرم    الأهلي يبحث عن فوز غائب ضد الهلال في الدوري السعودي    وزير الرياضة يتفقد مبنى مجلس مدينة شرم الشيخ الجديد    الحكومة الإسرائيلية تقرر وقف عمل شبكة قنوات الجزيرة    تقرير: ميناء أكتوبر يسهل حركة الواردات والصادرات بين الموانئ البرية والبحرية في مصر    التخطيط: 6.5 مليار جنيه استثمارات عامة بمحافظة الإسماعيلية خلال العام المالي الجاري    رئيس مدينة مرسى مطروح يعلن جاهزية المركز التكنولوجي لخدمة المواطنين لاستقبال طلبات التصالح    وزارة العمل تنظم ندوة لنشر تقافة الصحة المهنية بين العاملين ب"إسكان المنيا الجديدة"    5 مستشفيات حكومية للشراكة مع القطاع الخاص.. لماذا الجدل؟    موعد استطلاع هلال ذي القعدة و إجازة عيد الأضحى 2024    "خطة النواب": مصر استعادت ثقة مؤسسات التقييم الأجنبية بعد التحركات الأخيرة لدعم الاقتصاد    التنمية المحلية: استرداد 707 آلاف متر مربع ضمن موجة إزالة التعديات بالمحافظات    وزير الرياضة يشكل لجنة للتفتيش المالي والإداري على نادي الطيران    شريف عبدالمنعم عن سعادته بفوز الأهلي أمام الجونة: حسم المباريات وجمع النقاط الأهم    «شباب المصريين بالخارج» مهنئًا الأقباط: سنظل نسيجًا واحدًا صامدًا في وجه أعداء الوطن    بالتزامن مع ذكرى وفاته.. محطات في حياة الطبلاوي    جناح مصر بمعرض أبو ظبي يناقش مصير الصحافة في ظل تحديات العالم الرقمي    استشهاد ثلاثة مدنيين وإصابة آخرين في غارة إسرائيلية على بلدة ميس الجبل جنوب لبنان    الصحة الفلسطينية: الاحتلال ارتكب 3 مج.ازر في غزة راح ضحيتها 29 شهيدا    الإفتاء: كثرة الحلف في البيع والشراء منهي عنها شرعًا    بين القبيلة والدولة الوطنية    كنائس الإسكندرية تستقبل المهنئين بعيد القيامة المجيد    طوارئ بمستشفيات بنها الجامعية في عيد القيامة وشم النسيم    في إجازة شم النسيم.. مصرع شاب غرقا أثناء استحمامه في ترعة بالغربية    تكريم المتميزين من فريق التمريض بصحة قنا    افتتاح مركز الإبداع الفني بمتحف نجيب محفوظ.. يونيو المقبل    مختار مختار يطالب بإراحة نجوم الأهلي قبل مواجهة الترجي    اليوم.. انطلاق مؤتمر الواعظات بأكاديمية الأوقاف    مختار مختار: عودة متولي تمثل إضافة قوية للأهلي    هل يجوز السفر إلى الحج دون محرم.. الإفتاء تجيب    محافظ القليوبية يشهد قداس عيد القيامة المجيد بكنيسة السيدة العذراء ببنها    شم النسيم 2024 يوم الإثنين.. الإفتاء توضح هل الصيام فيه حرام؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أوجاع الفقر فى مصر
نشر في أخبار مصر يوم 17 - 10 - 2008

لم تمنعه رائحة القمامة المتعفنة من الوقوف في قلب العربة الخشبية - ذات اللون الأسود، والمهترئة تماماً كملابسه - والعبث في محتوياتها والإمساك بقشرة موز متسخة، وامتصاص ما علق بها من بقايا ثمرة تلك الفاكهة، المشهد كان لطفل في التاسعة من عمره، في أحد شوارع حي مصر الجديدة، بعاصمة ابنة المعز، التي كانت يوماً ما قبلة الجائعين، وهي نفسها التي أتي لها أخوة يوسف، طالبين المدد الغذائي في أعوام المجاعة التي عرفها العالم منذ آلاف السنين.
الحديث عن الفقر في مصر يوم الاحتفال بذكري مكافحته دولياً، حديث موجع، يدمي القلوب التي باتت تصطدم كل يوم بمشاهد قاسية تعبر عن علاقة المصريين به، ويري الكثيرون أنه ليس بالجديد عليهم، حيث توثقت روابطهم به، منذ أن اعتادوا نهب الغريب والقريب لثروات بلادهم وهم عنها بعيدون، حتي إن المثل المصري الشهير «إن فاتك الميري، اتمرغ في ترابه»، قيل منذ الاحتلال الروماني لمصر التي كانت سلة غلال الإمبراطورية الرومانية، خصوصاً القمح، الذي كانوا يطلقون عليه لفظ «ميري» وكان يخزن في الأجران لحين نقله إلي روما، وكان علي المصري الفقير أن يبحث عن حبوب القمح بين تراب الجرن، ليقيم قوته طوال العام.
وهو ما يعبر عنه الكاتب الصحفي عباس الطرابيلي بقوله: «كان من قدر المصري أن يتعرض للابتزاز من حكامه لعهود طويلة، فالمحتل لم يكن له هم سوي الاستيلاء علي ثروات البلاد، والحاكم المصري لم يأت للمصريين بالنعيم الذي ينشدونه أضف لهذا كله، نظام الضرائب الذي كان سبباً في زيادة معاناة المصريين الذين لجأوا لإخفاء أموالهم تحت «البلاطة» لمواجهة تعنت الحكام. وكانت الظروف السياسية وما شابها من حروب بعد الثورة سبباً في تراكم الفقر علي المصريين».
التعريف البسيط للفقر يشير إلي أنه يعني عدم كفاية دخل الفرد لمصروفاته الأساسية، إلا أن عدم كفاية الدخل ليس التعبير الوحيد عن الفقر، حيث إنه يعني أيضاً انعدام الفرص بسبب عدم كفاية التعليم والتغذية، وضعف الحالة الصحية، وقصور التدريب وعدم القدرة علي العثور علي عمل يمنح القدرات التي يتمتع بها الفرد، الجزاء العادل.
وهي معانٍ تنطبق إلي حد كبير علي واقع الكثير من المصريين الذين تعاني غالبيتهم من تدهور الخدمات المطلوب توافرها لهم، إلي جانب نسب البطالة المرتفعة التي تقدرها الأرقام بنحو 8 ملايين مواطن. ليس هذا فقط، بل وإنه طبقاً لتقارير البنك الدولي فإن الأفراد الذين يقل دخلهم اليومي عن دولار واحد، أي ما يوازي 5،8 جنيه يومياً، و174 جنيهاً شهرياً، ويعيشون تحت خط الفقر، بلغ عددهم 2،5 مليون شخص،
بينما تبلغ نسبة من يقل دخلهم اليومي عن 2 دولار، ما يوازي 11،6 جنيه يومياً، و348 جنيهاً شهرياً ويطلق عليهم الفقراء، نحو 35،8 مليون شخص. ليس هذا فقط بل حدث تدهور في الفترة الماضية لأوضاع 7،8 مليون مصري انخفضت دخولهم إلي أقل من 2 دولار يومياً. وهو ما يعني اتساع رقعة الفقر لتضم بين جنباتها العديد من المصريين حتي ممن كان يطلق عليهم في الماضي توصيف الطبقة الوسطي.
أمام ماكينة الصرف الآلي للمعاشات وقفت السيدة المسنة حائرة لا تعرف كيفية التعامل مع الماكينة لصرف معاشها، طلبت المساعدة، فسألتها كم تريد أن أسحب لها، فقالت: «كل المعاش، أكتبي يا ابنتي 350 جنيهاً» أتممت لها ما أرادت ومنحتها النقود التي أخرجتها الماكينة، مدت يدها مرددة: «لا أعلم بمن أبدأ، هل أسدد أجرة المنزل، أم اشتري الدواء، في النهاية لن يتبقي الكثير كي أكمل به الشهر، ربنا يبعت».
حديث السيدة التي كان يبدو عليها أنها من بقايا تلك الطبقة التي تآكلت يتوافق مع ما سبق لوزارة الشؤون الاجتماعية بالتصريح به، عن وجود نحو مليون مواطن يحصلون علي معاش الضمان الاجتماعي بقيمة تتراوح بين 50 جنيها و100 جنيه شهرياً، وبفرض أن متوسط الإعالة 4 أفراد للأسرة، نكون أمام 4 ملايين مواطن متوسط دخل الفرد منهم 2 دولار شهرياً.
وإذا لم يكن من الغريب أن نعثر علي جمعية خيرية في حي مصر الجديدة تطلق علي نفسها اسم «اختار أسرة»، تخصص جهودها لإعالة أسر الطبقة المتوسطة بجميع فئاتها، ممن عجزوا عن مواصلة رحلة الحياة وتحمل تكاليفها، في ذات الوقت الذي يمنعهم فيه وضعهم الاجتماعي من طلب المساعدة. الجمعية ترفع شعار «ارحموا عزيز قوم ذل».
ويقول مديرها محمد حسين: «لا أحد يصدق المستويات التي تتولي الجمعية مساعدتهم، يعيشون في منازل راقية وأحياء لا يخطر علي بال أحد أن يسكنها ذوا حاجة، وتهتم الجمعية بعمل دراسة لكل حالة ونعرضها علي من يتبرع للمساعدة، ليختار الأسرة التي يريد مساعدتها براتب شهري نحدده، الطريف أن الأسر التي تجتاز ظروفها الصعبة، بعد انتهاء تعليم الأبناء والتحاقهم بعمل، ترسل لي بخطابات تطلب وقف المساعدة».
علي الرغم من قسوة الأرقام التي تشير إلي اقتراب الفقر من نحو نصف المصريين، فإن الدكتور حازم حسني، أستاذ الإدارة بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، يؤكد عدم قناعته بها، مشيراً إلي أنه لا يمكن قياس الفقر في مصر بنفس الأسلوب الذي يقاس به في دول مثل ناميبيا، أو رواندا أو الصومال.
ويضيف: «هل يعقل أن أتحدث عن الفقر في الولايات المتحدة الأمريكية، بذات الطريقة التي أتناوله بها في مصر؟ بالطبع لا، ولكن الشيء المنطقي أن أقيم مستوي الفقر، بمجموعة السلع والخدمات التي يجب أن يحصل عليها الفرد، كي يحيا بصورة كريمة في دولة معينة.
كما أن أرقام جميع الهيئات الدولية لا تقدم لي حلولاً لواقع المأساة الاقتصادية في مصر، هي فقط تسعي لتمرير سياساتها، وفي اعتقادي أن مستقبل الفقر في مصر يرتبط بمستقبل النظام الحالي، الذي يعني استمراره تزايد معدلات الفقر، بعد أن باتت لجنة السياسات هي المتحكم الأول في جميع ما يمرر من قوانين وسياسات، ويجب أن نعلم أن التغيرات العالمية في مجال الاقتصاد لم تعد تتوافق والسياسات الهوجاء المستخدمة في مصر، وإذا كانت حكومات العالم المتقدم تراجع سياساتها المالية اليوم، فالأجدر بنا نحن فعل ذلك».
ويضيف: إن الثروة في مصر وهمية، لا تقوم علي زيادة الأصول في حجم الاستثمارات، ولكنها تنبع من التنازل بالبيع عن أصول، تمتلكها الدولة وفي مقدمتها الأرض، وهو ما يعني أننا لا نملك أي استثمار حقيقي يقينا من الفقر ويمنع عنا آثاره، بل علي العكس من ذلك، فإنه أهم أسباب زيادة الفقر في مصر، فبتنا كالفلاح الذي يذبح بقرته ليأكل لحومها ناسياً ما تمنحه إياه من لبن، ليجلس بعدها يشكو الحاجة، علي حد قوله.
وعلي الرغم من أن كل المصريين في الفقر سواء، فإن معدلاته تختلف ما بين الحضر والريف، والوجه البحري والقبلي، ولكن تبقي معدلاته في الصعيد هي الأعلي، حيث تشير الأرقام إلي أنه من بين كل 10 فقراء مصريين، نجد منهم 7 في محافظات الوجه القبلي.
ولعل هذا هو السبب الذي جعل أهالي قرية عزبة النخيلة بأسيوط، التي عاش بها تاجر المخدرات الشهير عزت حنفي، الذي نُفذ فيه حكم الإعدام في عام 2006، يترحمون علي حياته بعد عام واحد من القبض عليه، بعد أن خذلتهم حكومتهم في منحهم حياة كريمة، وإقامة مشروعات تنموية في القرية تدفع بها للأمام، مؤكدين أن ذلك المجرم تاجر المخدرات، كان أرحم بهم، فلم يكن يترك مريضاً ولا جائعاً من دون مساعدة.
ولا يقتصر الأمر علي النخيلة وحدها، فالطريق إلي الصعيد ممهد بالفقراء، ومنهم من يعيش في قري يشبهها الخبراء بأنها سقطت من حسابات الحكومة، وكأنها خارج حدود مصر، لم تصل لها يد الاستثمار التي لم يمل المسؤولون من الحديث عنها وتكرار ما يقال من أن مصر باتت تحتل المرتبة الأولي، في تسهيل إجراءات الاستثمار، دون أن يقولوا لنا ماذا جنينا من تلك المرتبة الكريمة، ولماذا وصل حجم الاستثمارات في منطقة «جبل علي» بدبي بالإمارات، والتي لا تزيد مساحتها علي منطقة شبرا بالقاهرة، إلي 15 مليار دولار سنوياً، تتفوق بها علي حجم الاستثمارات المصرية السنوية التي لا تزيد علي 13 مليار دولار.
أما الدكتور محمد عبدالفضيل، أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة، فكان له رأي اعتبر فيه أن التحيز سواء لقطاعات بعينها في الاستثمار، أو لبعض الفئات في المجتمع، هو أهم أسباب الفقر في مصر، وقال: «إن الدولة تتحيز في مجال الاستثمار لقطاعات بعينها كالاتصالات، والعقارات، وهي مجالات سريعة المكسب، ولكنها لا تؤثر في التنمية الحقيقية، كما يبدو التحيز أيضاً للطبقة الثرية في المجتمع يوضحه التفاوت الواضح في توزيع الدخل بين الطبقات.
وذكر تقرير التنمية البشرية في عام 2005 أن أغني 20% من السكان، يحصلون علي 6.43% من الدخل القومي، بينما أفقر 20% لا يتحصلون سوي علي 8.6% من الدخل القومي، وهو أمر يزيد الفقراء فقراً، ويجعل من القضاء علي الفقر أمراً مرجأ، لكنه ليس مستحيلاً، فهناك العديد من الدول التي كانت أعلي من مصر في معدلات الفقر لكنها نجحت في تقليص تلك المعدلات.
التجربة الماليزية في القضاء علي الفقر تؤكد حديث الدكتور عبدالفضيل، حيث تعد من أفضل تجارب مكافحة الفقر، بعد نجاحها علي مدار 3 عقود منذ عام 1970 في تخفيض معدل الفقر من 52.4% إلي 5.5% في عام 2000، واعتمدت فلسفة التنمية في ماليزيا،
كما تشير التقارير الاقتصادية، علي أساس استحالة تحقيق النمو الاقتصادي دون تحقيق المساواة في الدخل، والتأكيد علي أن مكاسب التطور الاقتصادي لابد من أن تنعكس بالإيجاب علي وضع المواطنين، عبر تحسين نوعية حياتهم بما يشمل توفير الضروريات من الغذاء والعلاج والتعليم والأمن، ليكون أول المستفيدين من هذا النمو الاقتصادي الفقراء، والعاطلين عن العمل، والمرضي الأكثر فقراً في المجتمع والأقاليم الأقل نمواً، وتُرجمت فلسفة التنمية في السياسات الاقتصادية التي وضعتها الحكومة الماليزية، لتركز علي هدفين، الأول تقليل الفقر،
والثاني إعادة هيكلة المجتمع. وتم تحديد عدد من الاستراتيجيات لتقليل الفقر، من بينها زيادة امتلاك الفقراء للأراضي، ورأس المال المادي، ورفع مستويات تدريب العمالة وزيادة الرفاهية العامة، في نفس الوقت الذي تضمنت فيه السياسة الضريبية بعداً اجتماعياً يستفيد منه الفقراء، من خلال مبدأ التصاعدية في ضريبة الدخل، حيث بلغ الحد الأدني من الدخل الخاضع للضريبة 658 دولارًا أمريكيا في الشهر، وتؤخذ الضريبة بعد خصم أقساط التأمين الصحي، ونسبة عدد الأطفال، ونفقات تعليم المعاقين من الأطفال،ومن يعول من الوالدين، ومساهمة صندوق التأمين الإجباري.
وإذا كان وزراؤنا سافروا إلي الهند لنقل تجربتها في الإدارة المحلية، وإلي المكسيك لنقل تجربتها في التمويل العقاري، أفلا يكون السفر لماليزيا هدفًا للمسؤولين الاقتصاديين في مصر؟
وترتيب مصر طبقًا لتقارير التنمية البشرية الدولية، يأتي ضمن الدول ذات التنمية البشرية المتوسطة، وتحتل المكانة 120 بين 177 دولة يشملها دليل التنمية البشرية، وهي مكانة متأخرة بالمقارنة بدول أخري في المنطقة تسبق مصر في الترتيب، من بينها إسرائيل التي تحتل المرتبة 22، وليبيا، والبوسنة والهرسك، وفنزويلا، والبرازيل، ولبنان وجزر فيجي، والمالديف.
وهو ما يقول عنه ممدوح الولي، مساعد رئيس تحرير الأهرام للشؤون الاقتصادية: «نحن نعالج الفقر في مصر بالندوات والمؤتمرات، دون أن يجهد المسؤولون أنفسهم بتنفيذ ما تخرج به من توصيات، وأذكر أنني سألت أحد المسؤولين في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي عن المقدار الحقيقي الذي يصل للفقراء من برامج الأمم المتحدة، وكانت الإجابة الصادمة أنها: «صفر»، والسبب أن نسبة عالية من الميزانيات والمخصصات المالية، تضيع في المؤتمرات والندوات وتوابعها من تأجير لقاعات الانعقاد، والطعام وغيرها.
الشيء الواضح أننا لا نملك الرغبة الأكيدة في العلاج والأسباب كثيرة، منها الفساد، والبيروقراطية،وسن القوانين بما يخدم فئة محددة، في الوقت الذي نصحو فيه بين الحين والآخر علي كارثة بشرية لا يضار منها غير الفقراء، كحريق قطار الصعيد الذي كان يستقله الغلابة، أو انهيار صخرة المقطم علي ساكني عشوائيات الدويقة، وهكذا ندور في حلقة مفرغة من الدراسات والإحصائيات والمؤتمرات التي تنتهي بتوصيات لا تجد طريقها للتنفيذ..
الدويقة التي تحدث عنها ممدوح الولي ليست المنطقة العشوائية الوحيدة التي يحيا بها الفقراء في مصر، التي لا يوجد بها أرقام حقيقية لسكان العشوائيات، رغم ما يمثلونه من وجع حقيقي في جسد المجتمع، لا لسوء ظروفهم الحياتية فقط، ومعاناتهم من امتهان كرامتهم طوال ساعات يومهم، لكن أيضًا لما تمثله تلك البؤر من تجمعات لمهمشين لا يعرفون العديد من معاني الانتماء، والتقاليد، والكرامة، فيصبح كل شيء أمامهم مباحًا لا رادع له، بدءًا من السرقة وهتك الأعراض، انتهاءً ببيع الوطن أو الإرهاب، وهو ما يطلق عليه المتخصصون «ثقافة الفقر».
كما حدث في التسعينيات من القرن الماضي عندما تبين أن المتطرفين لا يقطنون سوي تلك الأحياء العشوائية، ورغم ذلك غضت الحكومة الطرف عنها، ليصبح لدينا حسب تقدير الخبراء نحو 18 مليون مواطن يعيشون فيما يقرب من 1032 منطقة عشوائية، وهم يحملون جميع سمات الفقر وملامحه الكالحة البغيضة.
ولعل الفيلم الصدمة للمخرج خالد يوسف، «حين ميسرة»، الذي قدمه العام الماضي وتعرض بسببه لهجوم عنيف، كان أصدق شارح لتلك الفئة من الفقراء المصريين. وهو الذي دفع بالدكتور راجح أبو زيد خبير التخطيط العمراني إلي القول: «علاج الدولة لمشكلة العشوائيات، يشبه محاولة إنقاذ مريض امتلأ جسده بالخلايا السرطانية المميتة، عبر أقراص الأسبرين، فهل يمكن شفاؤه؟ بالطبع لا».
وبما أن مصر بلد تتعطل فيه القوانين الطبيعية المعتادة، والمطبقة في جميع أنحاء العالم- كما سبق للأديب عباس العقاد التصريح به في الستينيات- فإن دراسة أجراها الدكتور حمدي عبدالعظيم، بأكاديمية السادات منذ عامين يؤكد فيها أن إنفاق أثرياء المصريين في ليلة رأس السنة يبلغ نحو 5،5 مليار جنيه، ما بين حفلات رجال الأعمال والمطربين، والهدايا التي يتبادلونها، لا تعد غريبة ولا تثير الدهشة في بلد يشكو فيه المواطن من صعوبة الحصول علي رغيف الخبز،
بل إن هذه الدراسة تتراجع أمام ما نشرته الصحف، من نص تحقيقات النيابة في قضية رجل الأعمال، النافذ في عالم السياسة، هشام طلعت مصطفي، حول حجم إنفاقه علي مطربة لم تحقق شهرتها إلا مع خبر قتلها، حيث بلغ إنفاقه عليها 14 مليون دولار، بما يتضمنه المبلغ من مصاريف القتل، وهو مبلغ كاف بمقاييس الحكومة المصرية لإيواء ما يقرب من ألف مواطن في مساكن محدودي الدخل.
«القوانين الطبيعية لأي مجتمع تقوم علي التدرج الطبقي، فنجد الطبقة الدنيا تسعي للارتقاء إلي ما يعلوها من طبقات، لكن تلك القاعدة انهارت في مصر بشكل بات يهدد أمان المجتمع ومستقبله»، بتلك الكلمات بدأ الدكتور هاني السبكي، استشاري الطب النفسي، حديثه الذي وصف فيه حالة الفقر والتفاوت الشاسع بين طبقتي المجتمع الدنيا والعليا،
أضاف: «علي مدي سنوات أعقبت ثورة يوليو، باتت السلطة مسوغاً طبيعياً للثروة من قبل المسؤولين في الدولة، وباتت في مصر طبقة شعارها من يمتلك السلطة يمتلك كل شيء، والنتيجة اندثار الطبقة الوسطي، المنتج الحقيقي لأي مجتمع، لنجد الهوة الشاسعة بين الفقراء والأثرياء، ليكون الفصل لا علي المستوي الطبقي، فحسب، لكن علي المستويين الاجتماعي والعقلي أيضاً،
وبات المجتمع منفصلاً عن ذاته، ومن ير إعلانات الأحياء السكنية الراقية والترفيهية في مصر، ويقرأ الصحف التي تتحدث عن العشوائيات والفقر، ومعاناة 30% من أطفال الفقراء من التقزم، خصوصا في الريف، و54% من الأنيميا، وسكن 1.5 مليون مصري في مقابر القاهرة، يدرك طبيعة تلك الهوة بين فئات المجتمع،
والمتمعن في بعض ظواهر المجتمع كحفلات التبرع للفقراء أو موائد الرحمن يدرك أنها مجرد ظواهر لا تهدف لمكافحة الفقر، بقدر ما تعبر عن رغبة طبقة الأثرياء السلطويين، في التطهر من مشاعر الذنب أو تجميل صورتهم أمام المجتمع، في الوقت الذي يزداد فيه شعور الفقراء بغياب العدالة وفقد الثقة في الحكومة، وهي أمور تؤدي لزيادة انعزالية الفرد والعنف في المجتمع».
«يا بني أكلت الحنظل وذقت الصبر، فلم أر شيئاً أمر من الفقر» عبارة قالها الحكيم لقمان لابنه منذ مئات السنين، لكنها تبقي معبرة عن الفقر وطعمه في حلوق الفقراء، الذين لا يحلمون بمباهج الحياة، ولا يعلمون الكثير عنها، يحلمون بالستر والصحة ويسعون لأبسط المطالب المشروعة فهل لهم من مجيب؟ أم أن الفقر بات رفيقاً لفقراء مصر يرفض مفارقتهم؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.