الأهرام 22/2/2008 أكدنا في دراساتنا السابقة ضرورة تبني إطار نظري متكامل لو أردنا دراسة دور البحث العلمي في التنمية بوجه خاص وفي تحقيق التقدم الحضاري بوجه عام. وقد اقترحنا في مجال بلورة هذا الإطار النظري الانطلاق من ثلاثة مداخل أساسية وهي مدخل سوسيولوجيا العلم, ومدخل السياسة العلمية والتكنولوجية وأخيرا مدخل المشروع النهضوي, ومدخل سوسيولوجيا العلم يدرس البحث العلمي باعتباره نسقا اجتماعيا يتفاعل مع باقي الأنساق كالنسق السياسي والنسق الاقتصادي والنسق الثقافي. ومعني ذلك أن هناك علاقة وثيقة بين طبيعة النظام السياسي في بلد مافي لحظة تاريخية محددة وطبيعة منطلقات السياسة العلمية التي ستوضع لتحقيق أهداف التنمية وفقا للمنظور السياسي ووضعا في الاعتبار نوعية النظام الاقتصادي السائد. وقد أتاح لنا الدكتور إبراهيم بدران رئيس أكاديمية البحث العلمي المصرية الأسبق ووزير الصحة السابق, أن نختبر هذه العلاقة بشكل عيني, يقوم علي تحليل لخبرة مصر في وضع سياسات تكنولوجية قومية متعاقبة, وفي مراحل تاريخية مختلفة.وقد اتصل بي تليفونيا وأخبرني بأنه بحكم اهتماماته الطويلة بالبحث العلمي قد تابع مقالاتنا الماضية, وأراد أن يؤكد أنه تم بالفعل من قبل وضع سياسات علمية وتكنولوجية كما طالبنا ولكي يثبت صحة ذلك أرسل لي ثلاث وثائق مهمة. الأولي صدرت في المرحلة الاشتراكية بعنوان وثيقة السياسة التكنولوجية القومية لمصر عام1984 عن أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا حين كان الدكتور بدران رئيسا للأكاديمية والوثيقة الثانية صدرت في مرحلة الاقتصاد المزدوج في مصر ونعني تكاتف القطاع العام مع القطاع الخاص في تنفيذ برامج التنمية, وذلك عام1993, وكان عنوانها السياسة التكنولوجية في ضوء المتغيرات المحلية والدولية, حين كان الدكتور علي حبيش رئيس أكاديمية البحث العلمي.والوثيقة الثالثة صدرت عام2001 في مرحلة الاقتصاد الحر الرأسمالي وعنوانها تحديث السياسة التكنولوجية لمصر في مجال المشروع الوطني للنهضة التكنولوجية والتنمية الشاملة. وقد أعدت هذه الوثيقة لجنة تضم نخبة من أبرز علماء مصر, وكان مقررها هو الدكتور إبراهيم بدران بصفته مقرر لجنة الخدمات بالمجالس القومية المتخصصة.وهذه الوثائق الثلاث تكشف عن صحة رأينا في علاقة البحث العلمي بطبيعة النظام السياسي. فالوثيقة الأولي التي تتضمن في الواقع مجموعة من الموجهات العامة كانت تعكس فلسفة النظام المصري الاشتراكية في هذا الوقت, وطبيعة نظام الأوامر السائد. أما الوثيقة الثانية التي صدرت في بدايات مرحلة الانفتاح الاقتصادي وفتح الباب أمام النمو الرأسمالي فكان لابد لها أن تركز في مجال الاختيارات والتطبيقات التكنولوجية علي دور قطاع الأعمال العام ودور القطاع الخاص علي وجه الخصوص. أما الوثيقة الثالثة وهي أنضج هذه الوثائق جميعا فقد صدرت في غمار موجات العولمة المتدفقة وفي ضوء ثورة الاتصالات الكبري, وبزوغ المعلوماتية باعتبارها مبحثا علميا جديدا وبداية الانتقال علي الصعيد العالمي من المجتمع الصناعي إلي مجتمع المعلومات العالمي.وقد استطاعت هذه الوثيقة أن ترقي لتحديات عصر العولمة, إذ نراها في فقرة مهمة عنوانها المعلوماتية تتحدث عن ضرورة استكمال إنشاء قواعد المعلومات وتحديثها في كل موقع, وتحقيق طفرة كيفية وكمية في مكوناتها من حاسبات وشبكات اتصال, لتغطي كل الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية. وقد كانت الوثيقة علي وعي بأهمية استثمار قدرة العقول المصرية الشابة علي الإبداع والابتكار وأهم من ذلك الإسراع في تنمية صناعة المعلوماتية بإقامة التحالفات بين القائمين عليها في مصر وأقرانهم في الدول المتقدمة, بهدف نقل المعرفة, وتخفيض تكاليف الإنتاج, وزيادة القدرة علي التسويق. وهناك إشارة مهمة لتشكيل لجنة حكومية دائمة لنقل وتنمية التكنولوجيا, من مهامها بناء مجتمع المعلومات المصري الذي يستطيع ملاحقة واستيعاب هذا التدفق الهائل في المعلومات والمعارف المتطورة, ويحسن الاستفادة منها, بحيث تصبح دقة المعلومات هي الأساس الصحيح لأي قرار يتخذه أي مسئول كان, حكوميا أو صاحب منشأة. وقد لفت نظري أن الوثيقة في فقرتها الرابعة التي تتحدث عن صياغة السياسة الوطنية للتنمية التكنولوجية أشارت إلي ضرورة الإلمام التام والمعرفة المكثفة بالمتغيرات العالمية والاتجاهات المستقبلية. ونري أن هذا التوجه يعد ضرورة لصناع القرار السياسي والاقتصادي والعلمي, وذلك لأن التغيرات التي لحقت ببنية المجتمع العالميWorldSociety بالغة العمق, بحيث يمكن تأكيد أن الانسانية جمعاء قد دخلت مع الألفية الثالثة في طور حضاري جديد بعد سقوط النماذج القديمة في السياسة والاقتصاد والثقافة وبزوغ نماذج جديدة انطلاقا من منظومة مختلفة من القيم.وهذا الانتقال من المجتمع الصناعي إلي مجتمع المعلومات العالمي, يتضمن بروز تكوينات اجتماعية جديدة في عصر المعلومات, وبزوغ هويات جديدة مؤثرة علي التنمية الاجتماعية وصعود مايسمي المجتمع الشبكيNetworkSociety, كما يطلق عليه عالم الاجتماع الأمريكي كاستلز. وقد أدت هذه التطورات في مدي لم يزد علي عشرين عاما إلي إيجاد اقتصاد له طابع جديد هو الاقتصاد المعلوماتي والكونيglobal. وهذا الاقتصاد يوصف بأنه معلوماتي لأن تنافسية الفاعلين الرئيسيين فيه ونعني الشركات والأقاليم والأمم تعتمد علي قدرتها علي توليد وإدارة المعلومات الالكترونية. وهي رأسمالية كونية لأن أبرز جوانبها من أول التمويل إلي الانتاج منظمة علي مستوي العالم من خلال الشركات الدولية النشاط, مباشرة أو عن طريق الشبكات بشكل غير مباشر. في ضوء هذا الاقتصاد المعلوماتي تحول الإنتاج القومي ليصبح إنتاجا عابرا للقوميات.والمجتمع الشبكي يقوم علي أساس اتساع مجال التدفقات الحرة في مجال السلع والأموال والخدمات والأفكار والبشر.وقد أدي هذا الاتساع إلي ايجاد ثقافة الافتراضية الحقيقيةrealvirtuality والتي تتسم كما يقول كاستلز بالزمن اللا زمني والفضاء اللا مكاني! والمجتمع الشبكي إذن يقوم علي أساس فيضان من التدفقات المتنوعة وهي مرتبطة ارتباطا وثيقا بالقوةpower بحيث يقرر كاستلز في عبارة تبدو غريبة إلي حد ما أن فكرة التدفقات تسبق تدفق القوة! ويقصد بذلك أن مجال التدفقات بعكس المنطق الاجتماعي المسيطر في المجتمع الشبكي بعبارة أخري الدولة التي لديها قدرة أكبر علي إفراز التدفقات المتنوعة ستصبح أقوي من الدولة التي ليست لديها هذه القوة.ومعني ذلك أنه في ضوء المجتمع الشبكي تغيرت موازين القوة الدولية, وذلك في ضوء الانتقال الذي يتم ببطء وإن كان بثبات من مجتمع المعلومات العالمي إلي مجتمع المعرفة حيث ستصبح عملية إنتاج المعرفة هي أهم العمليات قاطبة في المجتمع الشبكي. وهكذا ينتهي حديثنا عن منظومة البحث العلمي في عصر العولمة.