النكتة في مصر موقف وحالة ومزاج وفن وصناعة يحترفها البعض ويتخذها وسيلة أو مهنة في الحياة. في مقدمة هؤلاء يأتي «المونولوجست»، حيث تلعب النكتة دورا أساسيا في مقدرته على إضحاك الناس. وليس مهما أن تكون النكتة ذات بريق جمالي لافت، بل قد يكون جمالها في قبحها وسخافتها.. فبنكتة سخيفة بدأ المونولوجست محمود عزب انطلاقته الفنية في عالم الكوميديا، محققا شهرة فاقت كل التوقعات وجماهيرية واسعة خلال عقد التسعينيات. لكن دهشتك من ضحك الناس على نكتة سخيفة، ستزول عندما تكتشف أنها كانت جزءا من فقرة يقلد فيها عزب زميله حمادة سلطان الأقدم منه في الكار. آمن عزب أن التجديد هو وقود أي مونولوجست لتستمر الرحلة، ولهذا بدأ مشواره مع الضحك بمهاجمة الرتابة والملل، وعلى حد قوله «صدقني أنا لا أضحك على «إفيهات» إسماعيل ياسين رغم عبقريته لأن الزمن تجاوزه.. مواقف وطرائف الستينيات لم تعد تصلح بالطبع لزماننا». ازدادت شهرة عزب مع تقديمه فقرات مبتكرة يتقمص فيها الملامح الأساسية لأي شخصية مع كثير من المبالغة والتركيز على كوميديا الحركة لينتزع ضحكات الجمهور بدون اللجوء لإلقاء النكات أو التقليد الحرفي كما كان يفعل سابقوه، «لا يمكن أن أقلد الناس مثل الببغاء»، ولهذا عندما أراد السخرية من فرقة محمد نوح مثلا ارتدى شورت مثل ابنه هاشم، كما ارتدى باروكة تشبه تلك التي يرتديها الإعلامي مفيد فوزي وبدأ في تقليد طريقة كلامه بشكل كوميدي. لكن الأيام دُوَّل، كما يقول المثل العربي، وما لبث أن أصبح أسلوب عزب قديما بمرور الوقت وقلت جماهيريته، وهو يبرر ذلك بقوله «انتزاع الضحك الآن صعب للغاية، الناس محتاجة تأكل قبل ما ترفّه عن نفسها، الحالة مش زي الأول، هل يمكن أن يضحك الموتى». اللافت أن هذه النظرة المتشائمة للغاية بمستقبل الضحك لم تحبط عزب فلجأ إلى الكوميديا السياسية وقدم دورا مهما في مسرحية «يمامة بيضا» تقمص فيها دور رئيس الوزراء المصري أحمد نظيف وحقق فيه نجاحا هائلا. «النكتة كالزبادي سرعان ما تفسد وتنتهي صلاحيتها»، هكذا بدأ وائل علاء أحد صناع البهجة من الطبعة الجديدة في مصر حديثه معي.. يؤمن علاء بأن «المونولوجست التقليدي لم يعد له مكان الآن، فقد كانت الناس في الماضي تنتظر أحمد الحداد ليضحكهم بنكت الصعايدة والرغّايات مدمنات الثرثرة. والآن بإمكان أي شخص أن يجلس أمام الانترنت لربع ساعة يطلع فيها على أحدث النكات التي سرعان ما تصبح قديمة بعد أيام». وأضاف علاء: «لا يمكن لأي مونولوجست أن يواكب تلك السرعة» ومن ثم عليه أن يطور من أدواته ويعتمد على كوميديا الموقف». ولهذا تمرد علاء على صورة المونولوجست التقليدي واختار الإعلانات لتقديم النكتة في موقف درامي، فقدم سلسلة لقناة «ميلودي» يؤدي فيها دور سائق تاكسي يتعرض لمواقف كوميدية مع الركاب يتم في أحدها مثلا إجباره على خلع ملابسه وتعليقه على شجرة خارج العمران عقابا له على ثرثرته، وفي أحد إعلاناته عن المشروبات الغازية تقمص دور مشجع الكرة المتعصب وحرك أقدامه ومسك حذاءه بطريقة فكاهية وعصبية، وهو بعد أمام جهاز التلفزيون يشاهد مباراة لفريقه المفضل. وعن كيفية اختراع «اسكتشاته» الضاحكة وتجنيبها الرتابة يقول وائل: «أبدأ يومي بالبحث في الانترنت، وأجرب النكات التي تعجبني على أصدقائي لأقيس مدى قدرتها على انتزاع الضحك، ثم أطور الفكرة في قالب درامي وأضيف عليها أفكارا أخرى وأبقيها معدلة بعد ذلك، أو أضعها في «اسكتش» أو احتفظ بملامحها في ذاكرتي لأستفيد منها عند تأديتي لشخصية ما في عمل درامي».. ينزع إذن علاء الخطوط الفاصلة بين المونولوجست والممثل الكوميدي والمؤلف «فهذا المزيج لا بد أن يوجد لدى الشخص لكي يضحك الناس الآن».. علاء بدأ رحلته مع الكوميديا بداية تقليدية من مسرح جامعة المنصورة وتقليد شخصيات فنية وإعلامية مشهورة كيوسف شاهين وسناء جميل وحسن فايق.. وغيرهم، إلى احتراف التقليد في الأفراح الشعبية. وكانت أول خطوة له في النجومية مع برنامج «ستديو الفن».. طريق قطعه غيره ربما بنفس التفاصيل تقريبا ولكن «من يريد أن يستمر في عرش الضحك عليه أن يبحث عن الاختلاف». محمد الهوا له تجربة مختلفة، فهو متخصص في تأليف النكات بأجر لكتاب المسرحيات وأبطالها.. يقول الهوا: «كنت أبيع النكتة الواحدة بخمسة جنيهات فقط بجانب عملي كعازف إيقاع، واستعان بي نجوم الكوميديا الكبار في الثمانينيات وأشهرهم محمد نجم، ثم ارتفع سعر النكتة إلى 100 جنيه» مشيرا إلى أن العديد من نجوم الكوميديا الشباب يلجأون إليه لاقتباس نكتة منه يضعونها كإفيه في أفلامهم، لكن هذا الإقبال قل بسبب الانترنت وانحسار تجربة المضحكين الجدد عموما في السينما. يعتمد الهوا على رصد تناقضات الشارع وصياغتها في نكتة، وتشكل السياسة وحب المصريين للثرثرة رافدا مهما لنكاته. طلبت منه أن يكون مسك ختام حديثنا نكتة ألفها فقال «في لبنان واحد بيسأل عن الإخوان المسلمين طلع له واحد قاله يا حبيبي هنا الإخوان رحباني بس». بحث صناع البهجة عن الجديد في النكتة، توافق مع ارتفاع نسبة الاكتئاب في مصر إلى 19% بحسب دراسة أجراها أخيرا الدكتور أحمد عكاشة رئيس الجمعية الدولية للطب النفسي ووصول عددهم إلى 6 ملايين نسمة. كانت النكتة سلاح المصريين في الأزمات، فحتى في أقساه وهي هزيمة يونيو 1967 لم يجدوا أماهم سواها لمداواة جروحهم ، فراجت نكتة تقول «مرة كلب راح على الحدود وأول ما فتح العسكري البوابة جرى بأقصى سرعة خارج مصر لكن العسكري جرى وراءه وسأله بتعمل كده ليه. رد الكلب: رايح أهَوهَو بره أصل هنا ممنوع» في إشارة لانحسار حرية التعبير في ذلك الوقت.