أتابع منذ فترة ليست بعيدة ظاهرة غريبة تحتاج إلى وقفة حاسمة وصارمة لمنع هذا التداخل الغريب في الأدوار والمسئوليات بين أجهزة الدولة.. لقد بدت أمامنا شواهد كثيرة تؤكد ان مؤسسات الدولة لم تعد تتمتع بالخصوصية المطلوبة وقد تجسد ذلك بصورة واضحة في دور مؤسسات تختص بقضايا الأمن القومي.. في زحمة الأحداث وارتباك المشهد العام وحالة الفوضى التي سادت حياة المصريين وجدنا على شاشات التليفزيونات وصفحات الجرائد والمجلات أسرارا وقصصا وحكايات لا يمكن ان يكون لها غير مصدر واحد هو مؤسسات وأجهزة الأمن القومي.. وهذا يطرح سؤالا في غاية الأهمية: إذا كانت السرية التامة هي أهم خصائص نشاط هذه الأجهزة فكيف تسللت أوراقها وأسرارها وتسجيلاتها إلى هذه العلانية من خلال الصحف والتليفزيونات؟!.. ومنذ متى كان الإعلام قادرا على الحصول على مثل هذه الأسرار بأساليبه التقليدية المتعارف عليها؟! ان هذا يعني ان مثل هذه الأسرار قد تسربت لأسباب واضحة ورغبة حقيقية في توصيلها للرأي العام، وان الإعلام لم يكن أكثر من وسيلة منذ زمان بعيد ونحن نعلم ان أسماء كثيرة تمارس أعمالا مزدوجة ما بين الإعلام وأجهزة الأمن ولكن ذلك كان يتم بطريقة سرية ولم يصل الأمر إلى مثل هذه الأنشطة المكشوفة التي تعكس خللا في أداء الأدوار والمسئوليات. لنكن أكثر وضوحا ونحن نطرح هذه القضية، في عام 1968 ثارت الدنيا حول عدد من التقارير التي تسربت من إحدى المؤسسات السيادية التي تختص بقضايا الأمن القومي وهي جهاز المخابرات العامة ويومها تم الكشف عن أسرار كثيرة حول تجاوزات هذا الجهاز في عهد رئيسه صلاح نصر.. وكان خروج هذه التقارير من دائرة السرية حدثا كبيرا اهتزت له أركان كثيرة.. وبعد ثورة يناير اقتحم المتظاهرون مبنى جهاز أمن الدولة في مدينة 6 أكتوبر وتم السطو على تقارير كثيرة تسربت ما بين الأيادي وصفحات النت وذهب بعضها إلى أجهزة الإعلام وشهدت اعتداءات كثيرة امتدت إلى أرشيف هذا الجهاز الخطير.. في الحالة الأولى وهي تقارير قضية جهاز المخابرات في عام 1968 كان واضحا ان ظهورها كان يهدف إلى التأثير في مسيرة المحاكمات التي دارت بعد نكسة 67 وقصة انتحار المشير عامر ومحاكمة صلاح نصر وعمليات التصفية التي دارت بين القوى السياسية في سلطة القرار في ذلك الوقت.. وعندما قام الرئيس السادات بثورة التصحيح وأطاح فيها برموز حكم عبد الناصر ذهب السادات بنفسه وحطم أسوار سجن طرة، معلنا بداية عصر جديد من الحريات بعيدا عن السجون والمعتقلات وكتاب التقارير. هذه كلها ملابسات أحاطت بدور ومسئوليات أجهزة الأمن القومي.. وإذا كان التاريخ قد سجل بعض تجاوزات هذه الأجهزة أمام تصفية للحسابات السياسة بين قوى متصارعة أو وقائع حقيقية إلا ان هذه الأجهزة قامت بدور كبير في حماية هذا الوطن ضد المؤامرات الخارجية والداخلية وكانت حصنا للأمن القومي المصري.. لا أحد ينكر دور جهاز المخابرات ومعاركه الخارجية ضد الموساد وأجهزة المخابرات العالمية والتي حقق فيها انجازات رهيبة، ولا أحد ينكر دور جهاز أمن الدولة في التصدي لمحاربة الإرهاب في التسعينيات خاصة في قضايا التطرف الديني واغتيال الشيخ الدهبي وضحايا مذبحة الأقصر من السياح. إذا كان هناك من تناول تجاوزات هذه الأجهزة في إطار تصفية لحسابات أو دعما لتيار سياسي دون آخر فإن الأمانة تقتضي ان نعترف بأن هذه الأجهزة كانت من أهم مصادر الحماية لأمن مصر القومي.. أعود من حيث بدأت واتساءل: كيف تداخلت أنشطة لها كامل السرية مع وسائل الإعلام وهي لا تعترف بشئ يسمى السرية أو حتى الخصوصية... في فترة قصيرة شاهدنا على الشاشات قصصا وحكايات وأسرار مكالمات تليفونية بين نشطاء سياسيين ورموز مختلفة من جميع التيارات والقوى السياسية، وهذه التسجيلات تحمل أكثر من وجه.. إن فيها أسرارا تهدد الأمن القومي المصري وفيها أحاديث ومكالمات تليفونية تدين أسماء كثيرة بل انها تصل بها إلى مستنقع الخيانة العظمى حيث التآمر ضد مصالح الوطن.. هذا هو الوجه الأسود في القضية، ولكن على جانب آخر فإن هذه التسجيلات لم تراع قضايا حقوق الإنسان والحياة الخاصة للمواطن وكيف تسربت أجهزة التسجيل واقتحمت حياته؟! إذا توقفنا عند الشق الأول من القضية فإن المسئولية كانت تحتم على القائمين بهذه التسجيلات ان تقدم للتحقيق فيها خاصة ما يهدد الأمن القومي منها، وهذه المسئولية تدخل في اختصاص من قاموا بعمليات التسجيل.. وإذا لم تكن الأجهزة المسئولة عن الأمن القومي هي التي سجلت هذه المكالمات فمن قام بها وكيف وصل إلى هذه الدرجة من السلطة التي منحته الحق في تسجيل مكالمات المواطنين؟! وهنا تصبح المسئولية مزدوجة على من اعطى نفسه حق التسجيل.. ومن باعه وسربه إلى وسائل الإعلام، وهنا ينبغي ان تبرئ أجهزة الأمن القومي نفسها وانها لم تكن شريكا في هذه العملية على الإطلاق. إذا توقفنا أمام ما حدث على أساس انه نشاط يدخل في مسئوليات أجهزة الأمن وانه تم في هذا الإطار يكون السؤال كيف وصل إلى أجهزة الإعلام.. وإذا كان قد تم بعيدا عن هذه الأجهزة يكون السؤال: من الذي قام به وعلى أي أساس أعطى نفسه هذا الحق، وهنا أيضا يكون السؤال بعيدا عن بديهيات العمل الصحفي لكل من كشف هذه الأسرار أمام المواطنين: كيف وصلت اليه وما هي أطراف اللعبة؟!. ان من حق الذين تشوهت صورتهم على وسائل الإعلام المرئي والمقروء ان يعرضوا قضيتهم ويتساءلوا إذا كانت أجهزة الدولة المسئولة هي التي فعلت ذلك فلماذا لم تقدمنا للمحاكمات وكيف سمحت لنفسها ان تقدمها للإعلام بهذه الصورة في حين ان خطورة الأمر تتطلب ان يكون مكانها أعلى جهات التحقيق في الدولة. ان البعض يستخدم كل هذه الأشياء كنوع من الإرهاب الفكري وهذا أمر لا يليق بدور أجهزة الأمن ومسئوليتها أو الرسالة السامية للإعلام. سوف يقول الزملاء الصحفيون ان أسرار المهنة تمنع سؤالهم عن مصادرهم.. وماذا يقول هؤلاء إذا كان القانون يمنع الاعتداء على خصوصيات الناس واقتحام حياتهم الخاصة!. لا أعتقد ان مصر قد شهدت من قبل وفي أي عصر من العصور كل هذه الفضائح على شاشات التليفزيون وصفحات الجرائد ومنها أحاديث وحكايات وتسجيلات أقل الجرائم فيها انها خيانة عظمى.. والأغرب من ذلك ان كل هذه القصص قد عبرت دون ان يتوقف عندها أحد من المسئولين في الدولة. نحن أمام قضية شائكة جدا رغم الصخب والضجيج الذي أحاط بها في الشارع المصري، وللأسف فإننا لم نجد صوتا يضعها في السياق الصحيح.. وهنا ينبغي ان نتوقف عند عدد من النقاط: إذا كان هناك تنسيق بين أجهزة الأمن القومي وأجهزة الإعلام التي قامت بنشر وإذاعة هذه التسجيلات فهذا لا يدخل أبدا في العمل الصحفي من الناحية المهنية بل هو خلط للأوراق بين أجهزة مسئوليتها السرية وأخرى مسئوليتها العلنية.. وهذا التداخل في الأنشطة لا يتناسب مع قدسية أنشطة الأمن القومي أو مسئوليات النشاط الإعلامي.. إذا كانت هذه التسجيلات قد حملت الإدانة للبعض وتشويه صورة البعض الآخر فإن المسئولية الوطنية تفرض التحقيق في كل ما جاء فيها من الوقائع والملابسات لأن فيها كما قلت ما يدخل في نطاق الخيانة العظمى.. وإذا كان البعض يرى فيها انجازا إعلاميا عبقريا فإن فيها أيضا تجاوزات أخلاقية لا ينبغي السكوت عليها. ان الخلط بين منظومة العمل الإعلامي وأنشطة الأمن القومي يسىء إلى الاثنين معا.. فليس المطلوب من الصحفي ان يكون مخبرا وليس المطلوب من رجل الأمن القومي ان يتخلى عن سرية نشاطه ويصبح ما لديه من الأسرار مشاعا للجميع.. لقد رأى البعض فيما شاهده المصريون من أحاديث ومحاورات وتسجيلات معجزة إعلامية خطيرة ولو اننا افترضنا هذا جدلا بمنطق السبق فهي جريمة في عالم الأخلاق. ان هناك إحساسا لدى كثير من المصريين ان ما شاهدوه على الشاشات وصفحات الجرائد كان أمرا مقصودا وتقف وراءه أسباب كثيرة كلها تدخل في نطاق التصفيات السياسية، ولكن المؤكد انها تركت ظلالا كثيفة على الحياة الخاصة للمواطن المصري.. كيف يأمن هذا المواطن ألا يجد في حقيبة أحد الصحفيين تسجيلا أو صورة تهدد أسرار حياته وهي حق مصون بمواد الدستور.. كيف لا يجد نفسه ضحية مؤامرة رخيصة لتشويه صورته وإفساد حياته.. وفي ظل حالة الفوضى والانفلات التي يعيشها الإعلام المصري وأمام آلاف القنوات المفتوحة على الإنترنت وأمام ملايين التليفونات المحمولة التي تنقل كل شىء لا يجد الإنسان جدارا يحميه من هذا الطوفان.. إن الشىء المؤكد ان مؤسسات الدولة المصرية مؤسسات عريقة تحكمها الأخلاق والضمائر وتمثل شعبا متحضرا مهما عصفت به الظروف الصعبة والحياة القاسية إلا انه لم يتخل يوما عن مجموعة من الثوابت التي وضعته دائما في مقدمة الشعوب الراقية. والغريب في الأمر ان البعض مازال يتحدث عن الضمير الصحفي وأمانة المهنة وقدسية الرسالة وماذا يفعل مواطن عادي حاول ان يقول رأيا أو يعترض على شىء ووجد نفسه محاصرا بعشرات التسجيلات التي تسربت إلى غرفة نومه، وما الذي يضمن الا تكون أشياء ملفقة من الاعيب التكنولوجيا الحديثة.. ان المطلوب من أجهزة الأمن القومي ولا أحد ينكر دورها ومسئوليتها ان تعلن عدم مسئوليتها عن هذا الكم الرهيب من التسجيلات التي اقتحمت حياة المصريين عبر الشاشات والصحف أو ان تؤكد ان ما نشر وما أذيع منها سوف يجد مكانا له أمام العدالة.. وإذا برأت هذه الأجهزة نفسها من المسئولية فعلينا ان نمسك برقاب من روجوها ونسألهم أمام القضاء: من أين جئتم بكل هذه القصص والحكايا؟! ..ويبقى الشعر لوْ أنَّنَا.. لمْ نَفْتَرقْ لبَقيتُ نجمًا في سَمائِكِ ساريًا وتَركتُ عُمريَ في لهيبكِ يَحْترقْ لَوْ أنَّنِي سَافرتُ في قِمَم ِ السَّحابِ وعُدتُ نَهرًا في ربُوعِكِ يَنطلِقْ لكنَّها الأحلامُ تَنثُرنَا سرابًا في المدَي وتَظلُّ سرًا.. في الجوَانح ِ يَخْتنِقْ لوْ أنَّنَا.. لمْ نَفْتَرقْ كَانَتْ خُطانَا فِي ذهول ٍ تَبتعِدْ وتَشُدُّنا أشْواقُنا فنعُودُ نُمسِكُ بالطَّريق المرتَعِدْ تُلقِي بنَا اللَّحظاتُ في صَخبِ الزّحام كأنَّنا جَسدٌ تناثَرَ في جَسدْ جَسدَان في جَسدٍ نسيرُ.. وَحوْلنَا كانتْ وجوهْ النَّاس تجَري كالرّياح ِ فلا نَرَي مِنْهُمْ أحدا مَازلتُ أذكرُ عندَما جَاء الرَّحيلُ.. وَصاحَ في عَيْني الأرقْ وتَعثَّرتْ أنفاسُنَا بينَ الضُّلوع وعَادَ يشْطرُنا القَلقْ ورَأيتُ عُمريَ في يَدَيْكِ رياحَ صَيفٍ عابثٍ ورَمادَ أحْلام ٍ.. وَشيئًا مِنْ ورَقْ هَذا أنا عُمري وَرقْ حُلمِي ورَقْ طفلٌ صَغيرٌ في جَحيم الموج حَاصرَه الغَرقْ ضَوءٌ طريدٌ في عُيون الأفْق يَطويه الشَّفقْ نجمٌ أضَاءَ الكونَ يَومًا.. واحْتَرقْ لا تَسْألي العَينَ الحزينة َ كَيفَ أدْمتْها المُقَلْ .. لا تَسْألِي النَّجمَ البعيدَ بأيّ سرّ قد أفَلْ مَهمَا تَوارَي الحُلمُ فِي عَينِي وَأرّقنِي الأجَلْ مَازلتُ المحُ في رَمادِ العُمْر شَيئًا من أمَلْ فَغدًا ستنْبتُ في جَبين ِالأفْق نَجماتٌ جَديدة وَغدًا ستُورقُ في لَيالِي الحزْن أيَّامٌ سَعِيدة ْ وغدًا أراكِ عَلي المدَي شَمْسًا تُضِيءُ ظلامَ أيَّامي وإنْ كَانَتْ بَعِيدةْ لوْ أنَّنَا لَمْ نَفترقْ حَملتْكِ في ضَجر الشَّوارع فَرْحتِي.. والخوفُ يُلقينِي عَلي الطُّرقاتِ تتمَايلُ الأحلامُ بينَ عُيوننَا وتَغيبُ في صَمتِ اللُّقا نبضَاتِي واللَّيلُ سكّيرٌ يُعانِقُ كأسَه وَيَطوفُ مُنْتَشِيًا عَلي الحانَاتِ والضَّوءُ يَسْكبُ في العُيُون بَريقَه وَيهيمُ في خَجل ٍ عَلي الشُّرفَاتِ.. كُنَّا نُصَلّي في الطَّريق ِ وحَوْلَنا يَتنَدَّرُ الكُهَّانُ بالضَّحكَاتِ كُنَّا نُعانِقُ في الظَّلام دُموعَنا والدَّربُ مُنفطٌر مِنَ العَبراتِ وتوقَّفَ الزَّمنُ المسافِرُ في دَمِي وتَعثَّرتْ في لَوعةٍ خُطوَاتي والوَقتُ يَرتَعُ والدَّقائِقُ تَخْتَفي فنُطَاردُ اللَّحظَاتِ.. باللَّحظَاتِ.. مَا كُنتُ أعْرفُ والرَّحيلُ يشدُّنا أنّي أوَدّعُ مُهْجتِي وحيَاتِي.. مَا كانَ خَوْفِي منْ وَدَاع ٍ قدْ مَضَي بَلْ كانَ خوْفِي منْ فِراق ٍ آتي لم يبقَ شَيءٌ منذ ُكانَ ودَاعُنا غَير الجراح ِ تئنُّ في كلِمَاتي لوْ أنَّنَا لَمْ نَفترقْ لبَقِيتِ في زمن ِ الخَطِيئَةِ تَوْبَتِي وجَعَلتُ وجْهَكِ قبْلَتِي.. وصَلاتِي "قصيدة لو أننا لم نفترق سنة 1998" نقلا عن جريدة الأهرام