لم تشاهد الملكة الشهيرة كليوباترا في حياتها ولم تسمع قط عن المسلة التي تحمل اسمها والموجودة اليوم في مدينة نيويورك في الساحة المركزية central park. والمسلة هذه في حقيقة امرها تعود الى أحد الفراعنة الكبار في العصر الذهبي للفراعنة في عهد الاسرة الثامنة عشرة، وهو تحتمس الثالث قبل ميلاد كليوباترا بحوالي الفي عام. وربما لم تسمع شيئا عن مسيرة حياته ولم يعنها هذا الامر. وربما لم يكن في ذلك الوقت احد بقادر على فك الشيفرة الهيروغليفية التي كتبت بها النصوص الفرعونية. وكلمة مسلة تعني الابرة الكبيرة وربما تكون كلمة فرعونية لكنها مازالت مستخدمة في كل البلاد التي وصلها النفوذ الفرعوني: والمسلة تشبه الابرة الكبيرة الى حد ما فقاعدتها عريضة وتسترق كلما ارتفعت باتجاه قمتها. ومسلة كليوباترا عبارة عن ساق من الغرانيت الاحمر تم استخراجه من محاجر اسوان التي تقع عند الشلال الاول للنيل. ويبلغ ارتفاع المسلة 68 قدما وعشر بوصات ويبلغ عرضها عند قاعدتها ثماني اقدام وبوصتين ويستدق - يسترق - سمكها كلما اتجهنا للأعلى حيث تصل في قمتها الى ست اقدام وبوصة واحدة. كانت المسلة مقامة اصلا في هيلوبولس - عين شمس التي التصقت معماريا بمدينة القاهرة في الزمن الحاضر. لكنها كانت خاج سور القاهرة قبل هدمه. ابحرت الباخرة الاميركية دو سوج من ميناء الاسكندرية في يوم 12 يونيو 1880 حاملة على متنها مسلة كليوباترا التي يبلغ وزنها مائتين وعشرين طنا. وقد استغرقت عملية ازالة المسلة من موقعها في الاسكندرية وعملية شحنها حوالي ثمانية شهور واستخدمت في عملية الشحن والنقل رافعات عملاقة وقد احتاجت لستة اشهر اخرى لانزالها الى البر، بمعنى ان السلطات الاميركية المتحدة قد استغرقت سنة ونصف السنة لنقل المسلة واستخدمت تكنولوجيا اواخر القرن التاسع عشر، لكن الفرعونة حتشبسوت تخبرنا عبر التقوش الهيروغليفية الموجودة في مسلتها بالتالي: ذلك ما سألقنه للاجيال التالية الذين سيأتون فيما بعد والذين سيشاهدون النصب التي اقمتها، وسيذهلون من تلك النصب التي اقمتها تخليدا لوالدي الذي ورثته على العرش، وكنت اتذكر دائما ذلك الذي انجبني. فهداني قلبي ان اقيم له مسلتين من الكهرمان تصلان الى قبة السماء مقابل البوابة العظيمة التي تقع بين معبد الملك تحتمس العظيم. وعندما تشاهدها الاجيال القادمة وتتحدث عن اعمالي المجيدة فليحذروا ان يقولوا ملغاة لا نعلم، ولي وطيد العزم ان تطلى هذه النصب بالذهب. وتزن مسلة حتشبسوت حوالي اربعمائة طن. ولقد استغرق العمل في المحجر ونصب المسلة سبعة شهور فقط، واقيمت المسلة عند احد معابد الكرنك. وقد نقلت من اسوان الى الكرنك فوق نهر النيل. فكيف علينا ان نتخيل امكانية نقل قطعة من الغرانيت وزنها اربعمائة طن ضمن تكنولوجيا ما قبل اربعة آلاف سنة. ويزن تمثال رسميس الثاني المقام في طيبة تسعمائة طن. كيف نقل المصريون القدماء هذه الاوزان الرهيبة عبر مئات الاميال وكيف نصبوها: ذلك سؤال محير لم يجب عنه احد بعد، رغم النظريات المتفاوتة حول ذلك. نعود الى مسلة كليوباترا وتاريخها: لقد بنيت المسلة اصلا في عهد تحتمس الثالث في هيلوبولس وزميلتها الاخرى هي المسلة الموجودة حاليا في مدينة لندن. وقد نصبتا مقابل بعضهما البعض ليخلدا اعمال الفرعون وانتصاراته. وقد كتب على وسط المسلة آيات الثناء على الآلهة وتركت المساحات الجانبية فارغة، عندما قام فراعنة لاحقون باملاء الفراغات وتدبيج الثناء على انفسهم. فمن هو تحتمس الثالث: انه حفيد الفرعون احمس مؤسس الاسرة الثامنة عشرة والذي طرد الهكسوس من مصر. كانت والدة تحتمس الثالث مصرية عادية لا تجري في عروقها الدماء الملكية، وكانت محظية عند والده تحتمس الثاني، وتوفي عندما كان ابنه طفلا.. لذلك قامت عمته حتشبسوت بالمناداة عليه فرعونا. وعندما بلغ من العمر عشرين عاما انفرد بالحكم. كان هذا الفرعون محاربا جبارا اقتحم بلاد ما بين النهرين قائدا للمعارك بنفسه، حيث امتدت حدود مصر الى عمق اسيا وافريقيا مكونا امبراطورية عظمى في ذلك العصر. وقد اقام عددا كبيرا من المسلات تخليدا لمعاركه تلك. ومسلة القديس جون لاتيران المنصوبة في روما واحدة من تلك المسلات، على الرغم من ان النقوش المكتوبة عليها تشير الى انه قد توفي لكنها بنيت في عهده. ونصبت في عهد ابنه تحتمس الرابع وهي من اكبر المسلات وتزن خمسمائة طن. والمسلة الاخرى المنصوبة في اسطنبول هي الاخرى من مسلاته ويروي فيها قصص بطولاته في بلاد ما بين النهرين. واضافة الى تدوين الانتصارات فقد هدف تحتمس الثالث الى استخدام تلك المسلات لاضاءة معبد الشمس. فقد طليت المسلات بالذهب لتعكس ضوء الشمس داخل المعبد. ولربما يفسر لنا ذلك التحول الذي طرأ عند احفاد تحتمس الثالث وتحولهم الى عبادة الشمس 'أتون' اخناتون ووالده. وهجرتهم من طيبة الى تل - العمارنة. كانت المسلات تقام ازواجا عند ابواب المعابد. وكانت هيلوبولس مركزا دينيا علاوة على كونها مركزا للعلوم والمعرفة لقرون طويلة. وكان يعبد فيها 'الثور' - منفيس - وقد زارها العديد من فلاسفة اليونان والرحالة. لقد انقطع تاريخ هذه المدينة عندما غزا الفرس مصر عام 525 قبل الميلاد بقيادة قمبيز واعملوا سيف الخراب والقتل في ربوع البلاد واسقطوا المسلات في الارض واحرقوها. وهدموا المعابد المقدسة عند المصريين واحرقوها. وضربوا النصب الخالدة عبر القرون. وعندما زار المؤرخ سترابو مدينة هيلوبولس بعد ذلك بخمسة قرون اثر الغزو الفارسي لم يجد سوى اطلال ومدينة قاحلة ومعابد مدمرة ومسلات غائصة في الرمال. ولكنه وجد المصريين يتعبدون في المعبد المدمر حسب الديانة المصرية القديمة. وبقيت مسلة كليوباترا 550 سنة ملقاة على الارض في هيلوبولس منذ الغزو الفارسي وحتى نقلها الرومان في عام 18 ميلادي ونصبت في الاسكندرية على شاطئ البحر على يد المهندس الروماني بونطس الذي خلد اسمه على قاعدة المسلة. ويبدو على الجانب الشرقي للمسلة تحتمس الثالث رابضا على قاعدة تشبه ابا الهول وممسكا بكلتا يديه باناءين مقدما القربان ل'رع' الذي له رأس صقر. الخديوي اسماعيل اهدى هذه المسلة لمدينة لم يزرها في حياته.