في الحديث السابق، لخصنا بشكل مركز ما جاء في مقالتين نشرتا في أوقات متقاربة بصحيفتين محليتين، نظرتا لمشروع الشرق الأوسط الكبير أو الجديد، باعتباره معبرالتحقيق التمدين والديموقراطية، والحكم الصالح وبناء مجتمع معرفي وتوسيع الفرص الاقتصادية، وتحديد آليات تطبيقها، وأكدتا على مشروعية التدخلات الخارجية في بلدانالعالم الثالث، حتى وإن كان ذلك بصيغ الاحتلال، كما حدث للعراق وأفغانستان. إن هذه التدخلات من وجهة نظر الكاتبين، تعبير عن المصالح والأهداف والقيم الإنسانيةالكونية المشتركة في عدم إفساح المجال لأي طاغية في التلاعب بمصائر شعبه ومواطنيه. وقد وعدنا القارئ الكريم بمتابعة وتناول أهم المحاور التي سردت في المقالتين المشار إليهما، بالتفكيك والتحليل. وذلك ما سوف نحاول التركيز عليه في هذه المقالة. ابتداء، يمكننا القول إن ما ورد في المقالتين المشار إليهما يمكن اختزاله في ثلاثة محاور: الترويج لمشروع الشرق الأوسط الجديد، وتبرير التدخلات الخارجية في شؤون البلدان الأخرى، والتبشير بالقيم الليبرالية الغربية. إن ما عدا ذلك من حشو ورد في المقالتين جاء في شكل أقنعة يجري التلفع بها من أجل تحقيق توريات بدت مفضوحة منذ البداية، وحتى النهاية. ولذلك فإننا لن نستغرق كثيرا في ملاحقة ومحاكمة الألفاظ والتعابير، خاصة وأن الإفصاحات اللاحقة عن المقاصد المكبوتة قد كفتنا مؤونة الرحلة. المحور الأول، مشروع الشرق الأوسط الكبير أو الجديد، فسوف نحاول تناوله منهجيا، لنكشف تهافت أطروحاته. التعابير الجغرافية تكتسب صفة الثبات النسبي، فهي ليست خاضعة في توصيفاتها وتحديد مفاهيمها للمتغيرات في السياسة الدولية واختلال توازن القوى، صحيح أن السياسات والاستراتيجيات العسكرية تتغير، وتتحرك بسرعة تبعا لتغير المواسم.. وكنتيجة طبيعية للتخلخلات في ميزان القوى العالمي، ولكن الجغرافيا: بحاراً وأنهاراً ومضائق وجبالاً وودياناً ومناخاً، وثروات وبشراً وثقافات ومواريث خاصيتها الثبات النسبي، التحولات فيها بطيئة جدا، غير مدركة في الغالب إلا بالتشريح والتبضيع، وتكاد تكون غير مرئية، يمنحها التقادم والمعايشة قدسية وهوية وانتماء، وتعابير وطنية، يصل الالتزام بها حد التضحية بالنفس. الشرق الأوسط الجديد، وفقا لهذا التوصيف، وأيضا لأسباب أخرى سنأتي حالا على ذكرها، ليس توصيفا جغرافيا، وإنما هو توصيف لاستراتيجيات عسكرية، دخلت قاموسنا السياسي، بقوة منذ مطلع الخمسينيات. وكان قد ورد في المعجم السياسي للإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس. حاله حال مفردات أخرى، أريد لها من قبل المستعمر أن تشكل جغرافيا جديدة لمنطقتنا، كشرق السويس، ودرة التاج البريطاني، والساحل المتصالح.. ولأن الأرض كروية، وقد شاءت حقائق الصراع الدولي، في مرحلة تاريخية محددة، أن تكون لندن عاصمة بريطانيا هي العاصمة للكرة الأرضية، وأن يكون توقيت ساعتها "غرينتش" المنصوبة في قلب المدينة، هي التوقيت الدولي لعموم البشرية، فإن موقعي الشرق والغرب يتحددان على ضوء موقع عاصمة العواصم. وهكذا تحدد الشرق الأدنى والأوسط والأقصى تبعا لموقعه من مدينة المدن. إذن فالتعبير عنصري ومتحيز ابتداء، لأنه يعتبرنا مجرد أطراف نائية في معادلة الهيمنة والقوة. ورفض الاستعمار وملحقاته، من قبلنا،يعني في أبسط أبجدياته رفضا لكل تركته.. بما في ذلك رفض سياسة التجهيل والترويع والتضليل والخداع. الشرق الأوسط، إذن ليس جغرافيا، ولكنه أحد المسميات لاستراتيجية الهيمنة على منطقتنا. وهو كما تم استخدامه من قبل مروجيه، يتضمن حدودا فضفاضة، قابلة للانكماش والتمدد، وينضح توصيفه بعدم دقته. فالإشارة إلى الشرق الأوسط الكبير بحد ذاتها تحمل بديهية أن هناك أكثر من شرق أوسط، وإلا لما كانت هناك حاجة لتحديد صفة "الكبير"، إنها تعني أن هناك شرق أوسط من نوع صغير الحجم، وآخر ربما من نوع متوسط الحجم، وآخر أراده صناع السياسة الأمريكية أو الغربية أن يكون كبيرا. وتوصيف الجديد، يتضمن معنى بوجود شرق أوسط قديم، تماما كما قال رامسفيلد بوجود أوروبا قديمة وأخرى جديدة. إن الذي يمنح المفهوم الجغرافي مشروعيته، من وجهة نظر صناع السياسة الدولية، هو مدى مواءمته لاستراتيجية الهيمنة، وتبعا لهذه الاستراتيجية يتمدد وينكمش. إنه إذن، بمنطق الأشياء، حزام استراتيجي وعسكري أمريكي جديد يضيق ويتسع تبعا لإرادة وقدرة صانعي سياسات الهيمنة. وإذا كان علينا أن نتعلم من الذاكرة التاريخية، باعتبارها معلما أكبر، فقد كان هناك مشروع آخر، مماثل قاده رئيس أمريكي آخر في بداية الخمسينيات، هو أيدوايت أيزنهاور حمل ذات الاسم.. مشروع الشرق الأوسط. وهو مشروع شاء صانعوه أن يكون برنامجا لملء الفراغ الناتج عن هزيمة الاستعمار التقليدي نتيجة للضربات المتلاحقة الماحقة التي أوقعتها الحركات الوطنية في آسيا وإفريقيا، وبضمنها وطننا العربي بالاستعمار التقليدي. وكان سقوط حكومة عدنان مندريس في تركيا، وموقف عدد من القيادات العربية المناوئ لسياسة الأحلاف والقواعد العسكرية قد أودى بمشروع أيزنهاور للشرق الأوسط وملأ الفراغ, وعلى أنقاض ذلك المشروع، جرت محاولة صياغة حلف جديد عرف بحلف بغداد، وقفت في وجهه عواصم عربية رئيسية في الرياض والقاهرة ودمشق، وقبر في صبيحة 14 يوليو عام 1959، عندما قام انقلاب عسكري أعلن خروج العراق من الحلف، وطرد البريطانيين