مع استمرار الجهود الدولية الرامية إلى وقف استمرار البرنامج النووى لكوريا الشمالية ، ومع الجولات الدؤوبة للمحادثات السداسية فى هذا السياق ، فقد جاءت الجولة الخامسة فى الثالث عشر من الشهر الماضى لتسجل اتفاقاً تاريخياً ، بموجبه وافقت كوريا الشمالية على تفكيك ترسانتها النووية مقابل مساعدات مالية ومكاسب سياسية ، ولكن يبدو أن الرياح أتت بما لا تشتهيه السفن ، فمع اقتراب الجولة السادسة من المحادثات السداسية ظهرت فى الأفق عقبتان أمريكيتان تعكران الأجواء قبل انطلاق هذه الجولة الجديدة ، اعتبرهما المراقبون بمثابة إخلال الولاياتالمتحدة بالتزاماتها الواردة فى وثيقة 13 فبراير 2007 ، أولهما يتعلق برفض عدد كبير من نواب الكونجرس الأمريكى بالتصويت لصالح خطوة رفع اسم كوريا الشمالية من قائمة الإرهاب الأمريكية أو بالتصويت لصالح تطبيع العلاقات الدبلوماسية مع بيونج يانج ، والثانى يتعلق بالعقوبات المالية التى فرضتها واشنطن ضد بيونج يانج من قبل ، والخاص بتجميد حسابات كوريا الشمالية فى بنك دلتا آسيا بمنطقة ماكاو ( الصينية ) نحو 25 مليون دولار أمريكى . فمن جانبهم اتفق المراقبون والمحللون على أن الجولة السادسة من المحادثات السداسية المتعلقة بالقضية النووية فى شبه الجزيرة الكورية والمزمع إطلاقها يوم بعد غد الاثنين ستكون شديدة السخونة بالغة التعقيد قياساً بالجولات الخمس السابقة التى استضافتها بكين منذ اندلاع الأزمة النووية بين الطرفين الرئيسيين بيونج يانج وواشنطن عام 2002 ، ويتفق المراقبون كذلك على أن الولاياتالمتحدة تتحمل الجزء الأكبر من المسئولية عن ذلك بسبب عدم وفائها بالتزاماتها الواردة فى وثيقة فبراير 2007 ، تلك الوثيقة والالتفاف عليها بصورة شابها الكثير من الدهاء خاصة وأن تلك الوثيقة قد قُوبلت باعتراضات شديدة من جانب العديدين فى واشنطن فور الإعلان عن فحواها وأحدثت انشقاقاً كبيراً داخل أروقة صنع القرار حيال الكيفية التى يتعين التعامل بها مع الملف الكورى النووى . فمن حيث موقف البيت الأبيض الأمريكى تجاه وثيقة فبراير 2007 ، قد توالت الانتقادات الشديدة لقبول كريستوفر هيل رئيس الوفد الامريكى فى المحادثات السداسية لتلك الوثيقة ، حيث وصفها البيت الأبيض بأنها " خطوة كبيرة ولكن إلى الوراء " إذا ما قيست باتفافية جنيف عام 1994 وببيان سبتمبر عام 2005 ، كما وصفوها بأنها اتفاقية " سيئة جداً " ، وتنال كثيراً من هيبة الولاياتالمتحدةالأمريكية وتُظهر إدارة الرئيس بوش فى موقف " ضعيف جداً " ، فى وقت ينبغى أن تكون بمنتهى القوة على نحو يؤهلها للتعامل الحازم مع الملف النووى الإيرانى ، واتفق العديد من المسئولين الأمريكيين على أن أى صفقة مع كوريا الشمالية يتعين مقارنتها باتفاق جنيف عام 1994 الذى تم التوصل إليه إبان عهد إدارة الرئيس بيل كلينتون ، وهو الاتفاق الذى انتقده الرئيس جورج بوش ووزيرة الخارجية كونداليزا رايس لأنه اكتفى ب " تجميد " الأنشطة النووية لكوريا الشمالية ، بحيث تستطيع الرجوع إليها فى أى وقت – وهو ما حدث عملياً – ولأنه أيضاً ترك صادرات البلاد من السلاح إلى الخارج دون مراقبة .. وهكذا انهار الاتفاق فى عام 2002 وشرعت كوريا الشمالية منذ ذاك الحين فى تحويل الوقود النووى المستنفد إلى سلاح نووى . وأما فيما يتعلق ببيان سبتمبر 2005 فقد أشار المسئولون الأمريكيون إلى أنه تضمن تعهداّ صريحاً ومحدداً بسقف زمنى بتخلى بيونج يانج عن كامل أسلحتها النووية ، بينما يقتصر " الإتفاق الصينى على محطة يونج بيونج فقط " ، كما أن التعويضات المتعلقة بحجم المساعدات الاقتصادية وإمدادات الطاقة الواردة فى بيان سبتمبر 2005 تظل أقل بمئات آلاف الأطنان ، حيث أضاف المحللون إنه حتى فى حالة موافقة كوريا الشمالية على تنفيذ الخطوات الأولية المتمثلة فى إغلاق مفاعلها النووى الرئيسى فى بيونج يانج والسماح للمفتشين الدوليين بالعودة إلى البلاد وفقا لما تتضمنه فإن ذلك يُعد خطوة ضئيلة ولا تقارن بالثمن الباهظ الذى دفع مقابلها ، كما أنه لا يوجد هناك موعد زمنى محدد تلتزم بموجبه بيونج يانج بتسليم أسلحتها النووية بالإضافة إلى الوقود النووى الذى نجحت فى انتاجه طيلة السنوات الأخيرة . واليوم وبعد مرور أكثر من شهر على صدور اتفاقية فبراير .. يبدو أن المعسكر الرافض فى الولاياتالمتحدة لتلك الاتفاقية قد تغلب على المعسكر المؤيد ، وبدا ذلك جلياً فى موقفين رئيسيين اتخذتهما واشنطن مؤخراً .. الأول يتعلق برفض عدد كبير من نواب الكونجرس الأمريكى – ومن بينهم نواب عن الحزب الجمهورى الذى يتزعمه بوش – بالتصويت لصالح خطوة رفع اسم كوريا الشمالية من قائمة الإرهاب الأمريكية أو بالتصويت لصالح تطبيع العلاقات الدبلوماسية مع بيونج يانج وهما تعهدان أساسيان التزمت بهما واشنطن ضمن وثيقة 13 فبراير ، أما الموقف الآخر فيتعلق بالعقوبات المالية التى فرضتها واشنطن ضد بيونج يانج . وبشأن قرار إلغاء تجميد أرصدة حسابات كوريا الشمالية ، فإنه على الرغم من إعلان كريستوفر هيل أمس من بكين أن واشنطن قررت إلغاء التجميد المفروض على حسابات كوريا الشمالية فى بنك دلتا آسيا بمنطقة ماكاو وتقدر بنحو 25 مليون دولار أمريكى .. إلا أن ذلك تزامن مع قرار اتخذته وزارة الخزانة الأمريكية بحظر أى معاملات مع البنك من قبل جميع البنوك الأمريكية .. الأمر الذى يعنى عملياً تجميد البنك برمته وعزله خارج المنظومة المصرفية العالمية بأسرها ، حيث لا يتعامل هذا البنك إلا بالدولار الأمريكى وكافة معاملاته الخارجية تتم من خلال بنوك عابرة للقارات تخضع لمراقبة وتدقيق البنوك الأمريكية .. ومن ثم تتمكن كوريا الشمالية من سحب مستحقاتها المُجمدة وبالتالى تصبح تصريحات كريستوفر هيل خالية من أى مضمون . ولعل ذلك ما يفسر التهديدات الصارمة التى أدلى بها كيم جى جوان – كبير مفاوضى كوريا الشمالية – لدى وصوله اليوم إلى بكين بأن بلاده لن توقف نشاطها النووى إذا لم تستجب الولاياتالمتحدة لمطالبنا بالإفراج عن الأرصدة المُجمدة بشكل كامل ، ويُذكر فى هذا الشأن أن وضعت الخزانة الأمريكية مصرف بنكو دلتا أسيا على القائمة السوداء منذ سبتمبر 2005 ، مما أدى إلى تجميد حسابات كوريا الشمالية بقيمة 25 مليون دولار ، وكما يفسر دوافع تلك اللهجة المتُشددة الصادرة عن الخارجية الصينية لدى إعرابها عن الرفض الحازم للقرار الأمريكى علماً بأن بنك دلتا آسيا وإن كان يخضع للقوانين المحلية فى منطقة ماكاو الإدارية الخاصة لكنه يبقى فى نهاية المطاف خاضعاً للحكومة الصينية وعليها الوفاء بكامل التزاماته حال عجز هو عن ذلك .. الأمر الذى يعنى أن واشنطن ألقت بالكرة فى الملعب الصينى وأصبحت بكين هى المسئولة عن دفع ال 25 مليون دولار إلى كوريا الشمالية . أما بشأن تفكيك البرنامج النووى لكوريا الشمالية ، فقد صرح محمد البرادعى – المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية – لدى عودته إلى فيينا بعد زيارة كوريا الشمالية والصين ، بأن مسئولى بيونج يانج لا يزالون يرغبون فى احترام المهلة ونحن لا نزال نأمل أن نفعل ذلك بحلول 13 أبريل المقبل ، وأضاف البرادعى أنه إذا رفعت العقوبات الاقتصادية فنتوقع أن تدعونا جمهورية كوريا الشعبية الديمقراطية لتحديد آليات الإشراف والتحقق من التزامها بإغلاق وختم مفاعل بيونج يانج فى نفس التاريخ ، أى بعد مرور شهرين من اتفاق بكين السداسى . ومن جانبه قال المفاوض الأمريكى للمحادثات السداسية بشأن برنامج بيونج يانج النووى كريستوفر هيل إن قضية بنك ماكاو يجب أن لا تكون عائقا أمام تنفيذ الاتفاق الذى أبرم يوم 13 فبراير الماضى وتلتزم بموجبه كوريا الشمالية بإغلاق منشآتها النووية مقابل مساعدات ورفع العقوبات المالية .