بقى تاريخ مصر الحديث من المناطق الشائكة التي اثارت جدلا كبيرا بين زعامات وأشخاص ومراحل وغابت الحقائق أمام غياب الوثائق وتشويه الأدوار وأصبح تاريخ الوطن ضحية أمام أغراض مشبوهة ونوايا سيئة.. لم نستطع يوما ان نضع أيدينا على حقيقة ما جرى في بلادنا فقد اختلفت المواقف وتعددت الرؤى ووجدنا أنفسنا أمام حالة من العجز الكامل وعدم القدرة على توضيح الحقائق وكشف الأسرار.. وتحول تاريخ مصر الحديث إلى مجموعة من الألغاز والطلاسم ووجد الباحثون والمؤرخون أنفسهم أمام تلال من الأوراق حملتها أطنان من المذكرات والقصص والحكايا التي لم تكشف سرا ولم توضح حقيقة.. وبقى تاريخ مصر حائرا بين مسئولين يحاولون تبرئة الذمم أو كتاب يغالطون الحقائق أو مجموعة من المنتفعين الذين تاجروا في ذاكرة الوطن.. كشفت الأزمة الأخيرة التي دارت بين طوائف الشعب المختلفة حول الجزيرتين تيران وصنافير عن الوجه الحقيقي لجزء من تاريخنا الحديث الذي تبعثر بين المكاتب والأشخاص حتى اننا دخلنا معركة ضارية مازالت اصداؤها تتردد حول ملكية الجزيرتين وهل هما أرض مصرية أم جزر سعودية.. لقد ظهرت وثائق كثيرة تؤكد ان الجزيرتين سعوديتان وظهرت أوراق أخرى تؤكد ان الجزيرتين أرض مصرية ولو ان هناك تاريخا موثقا بالحقائق والوثائق والاتفاقيات ما كان هذا الجدل ومادارت هذه المعركة.. كان تاريخ مصر الحديث خاصة بعد ثورة يوليو حقا مستباحا لوجهات نظر متعارضة وقد فتح ذلك أبوابا كثيرة لصراعات فكرية وعقائدية بل دخلت فيها صراعات بين الأشخاص خاصة هؤلاء الذين تولوا مسئولية القرار.. وسط هذا حاول كل فريق ان يبرئ ساحته وتحول التاريخ إلى مساومات وصراعات وتصفية حسابات بل ان الأحداث تجنت على الكثيرين وتجاهلت أدوارا وأسقطت رموزا وبقيت معظم الأحداث الكبرى مجالا للخلافات والمواقف.. كان من السهل ان يخرج كل رمز من رموز الثورة يحكي قصته معها وقد بدأ ذلك مع أول رئيس للجمهورية وهو اللواء محمد نجيب الذي اختفى عن الساحة في ظروف غامضة ثم ظهر على السطح فجأة في مذكراته التي اهتزت بها أركان كثيرة وعاد اللواء الغائب يطل مرة أخرى على الأحداث وبقى السؤال: هل قال نجيب الحقيقة أم أسرف كثيرا في الدفاع عن نفسه ودوره وحياته؟!. لم تكن مذكرات نجيب المفاجأة الوحيدة ولكن جاءت مذكرات عبد اللطيف البغدادي لترفع الستار عن حقائق وأسرار أخرى خاصة ان دور البغدادي في بداية الثورة كان دورا مؤثرا ورئيسيا.. وتلى ذلك تلال أخرى من المذكرات كان من أهمها ما كتبه السيد خالد محيى الدين ويوسف صديق وغيرهما من أصحاب الأدوار في تاريخ ثورة يوليو.. لم يعترف المؤرخون بالمذكرات كمصدر من مصادر التاريخ الأساسية وجاء كاتبنا الكبير الأستاذ محمد حسنين هيكل ليطرح قضايا كثيرة حول ثورة يوليو تاريخا وأسرارا وأدوارا في سلسلة من الكتب أخذت موقعا خاصا في كل ما كتب عن ثورة يوليو، كان هناك فريق آخر لم يعترف بكل هذه الكتابات لأنه كان ضد الثورة من بدايتها وحاول هذا الفريق ان يكشف حقيقة ما جرى ورغم هذا ظلت الحقائق غائبة وسط سحابات من الغموض التي أطاحت بالوثائق كأهم مصدر من مصادر التاريخ.. في الأسبوع الماضي كنت قد تساءلت عن وثائق ثورة يوليو وهل ضاعت أم اختفت وأين هي.. واتصل بي السيد سامي شرف مدير مكتب الزعيم الراحل جمال عبد الناصر وأكد لي ان جميع الوثائق موجودة وموثقة على وسائل عصرية وكانت تحتل مكانا كبيرا في قصر عابدين ثم تقرر نقلها إلى قصر القبة وهي موجودة الآن وحولها وسائل تأمين كاملة. وأكد السيد سامي شرف ان صورا من هذه الوثائق لدى وزارة الخارجية فيما يخص علاقات مصر بالدول الأجنبية وهناك صور أخرى منها لدى كاتبنا الكبير الأستاذ محمد حسنين هيكل والسيد أشرف مروان فقد حصل كل منهما على صور لأهم الوثائق التاريخية الهامة. منذ سنوات كتبت سلسلة مقالات في الأهرام تحت عنوان من يكتب تاريخ ثورة يوليو وقد وصلتني يومها ردود وتعليقات من عدد من رموز الثورة وأصدرتها في كتاب يحمل نفس العنوان.. وقد تضمنت لقاءات مع السيد زكريا محيى الدين والسيد حسين الشافعي نائبي رئيس الجمهورية وعدد آخر من ثوار يوليو.. والغريب ان مؤرخنا الكبير يونان لبيب رزق كان رئيسا للجنة تم تشكيلها لجمع تراث ثورة يوليو من خلال عدد من الشخصيات التي شاركت في هذا الحدث وقد قام الرجل بجهد كبير مع عدد من الباحثين في جمع اعترافات كثيرة ولا أحد يعرف مصير هذا الجهد الكبير وأين هو الآن.. الأخطر من ذلك ان الدولة كانت قد قررت تحويل مبنى مجلس قيادة الثورة في الجزيرة إلى متحف لتاريخ الثورة وقررت له مبلغ 40 مليون جنيه ولا أحد يعرف مصير هذه الأموال خاصة ان المتحف لم يكتمل بعد وتطلب صرف مبالغ إضافية يعلم الله ما وصلت اليه هذه الأموال حتى الآن. انها حلقات متصلة ولكنها لا تصل بنا إلى شىء.. لقد بدأت بأحداث غامضة وتاريخ مجهول وانتهت إلى سيل من المذكرات الشخصية التي دافع أصحابها عن أنفسهم وأدوارهم ثم انتقلت إلى لجان لا أحد يعرف مصير ما توصلت إليه من الأسرار والوثائق.. ان أسوأ ما تعرض له تاريخ مصر الحديث ان مراحل العمل السياسي اكلت بعضها وكان أول الأخطاء هو تجاهل تاريخ ما قبل الثورة واعتبار ثورة يوليو هي التاريخ الحقيقي لمصر وما عداها باطل واسقطت الثورة كل الرموز الوطنية التي شاركت في بناء هذا الوطن عبر سنوات طويلة.. وللأسف الشديد ان مراحل الثورة المختلفة شربت من نفس الكأس فأنكرنا في البداية تاريخ محمد نجيب واسقطناه من قائمة رؤساء مصر ثم كان الإنقسام الدامي حول تجربة عبد الناصر بما شهدته من تصفية للحسابات ومع مرحلة الرئيس السادات كان الصراع بين الناصرية والساداتية ثم دخلنا مرحلة طويلة من الخمول الفكري والثقافي والتاريخي امتدت ثلاثين عاما وحين وجدنا أنفسنا أمام أزمة تتطلب فقط وجود وثائق حقيقية انفجر الشارع المصري رفضا وقبولا رغم اننا في أزمة طابا كانت لدينا عشرات الوثائق من عهود ومراحل مضت في العصر الملكي وما قبله. سوف يبقى التاريخ الحقيقي البعيد عن الأضواء والأغراض من أخطر الجوانب غموضا في حياة المصريين وقد امتدت هذه اللعنة إلى تاريخنا الحاضر فلا أحد يعرف ما حدث في ثورة يناير ثم بعد ذلك ما حدث في ثورة يونيو وما جرى في الشارع المصري في هذه المرحلة الحرجة من تاريخنا. ان الوثائق غائبة والحقيقة بكل أسرارها لا يعرفها أحدا وإن المؤرخين الجادين حائرون بين الاجتهادات والتفسيرات والرؤى وكل واحد، ومنهم يحاول قراءة الأحداث والوقائع دون ان يقدم الأدلة والمستندات.. وحتى المحاولات الجادة في إنشاء متحف لثورة يوليو لم تكتمل حتى الآن وهناك غموض شديد حول الوثائق واللقاءات التي جمعتها نخبة د. يونان لبيب رزق وأطالب الصديق الكاتب الصحفي حلمي النمنم وزير الثقافة بأن يدلنا على هذه الوثائق وما هو مصيرها الآن وماذا تم في إعداد المتحف الذي مرت عليه الآن عشر سنوات ولم يكتمل. لقد تعرض تاريخ مصر لعمليات نهب منظمة واختفت وثائق كثيرة أمام الإهمال والتسيب وهناك من تأجر في هذه الوثائق وهناك أيضا من استباحها رغبة في الانتقام أو تصفية الحسابات.. لا أحد يعرف أين محاضر جلسات مجلس قيادة الثورة في الأيام الأولى لثورة يوليو ولا أحد يعرف أصول القرارات السيادية حول الإصلاح الزراعي أو حل الأحزاب السياسية ومادار في هذه الفترة ولا أحد أيضا يعرف الملابسات التي أحاطت بالقرارات والإجراءات الهامة التي اتخذتها الثورة مثل تأميم قناة السويس ومعركة السد العالي وحرب 56 وما حدث في نكسة 67 من تطورات بل ان اختفاء بعض رموز الثورة بقى سرا غامضا وفتح مجالات واسعة للخلافات في الرأي والمواقف.. ان أهم الأحداث في تاريخنا الحديث عبرت ولم تترك خلفها أثرا حيث لا وثائق ولا شهادات ولا أوراق ولا يعقل ان يظل تاريخ مصر مجالا للصدفة أو الاجتهاد في وقت غابت فيه كل الحقائق.. نحتاج إلى وقفة صادقة مع تاريخنا ننصف فيها من يستحق الانصاف وندين من هو جدير بالإدانة المهم ان نحمي تاريخ الوطن. في دول العالم المتقدمة توجد أرشيفات للأحداث الكبرى والشخصيات الهامة في تاريخ الشعوب وتحرص هذه الدول على حماية وثائقها وتاريخها من العبث والتجريف والإهمال ولكننا في مصر تعاملنا مع التاريخ بكل مصادره بشىء من عدم الجدية فلا أحد يعرف أين الوثائق وكيف نحافظ على ما بقى منها من الزمن وأصحاب المصالح وهواة تزييف الحقائق.. ان الشىء المؤكد ان هناك وثائق كثيرة لدى عدد من الأشخاص والمطلوب ان تسترد الدولة هذه الوثائق وتحفظها.. وفي مفاوضات طابا كانت أهم وثيقة حسمت القضية قدمها شيرين باشا زوج الأميرة فوزية ووزير الحربية في العصر الملكي وكانت من أوراق العصر العثماني. لقد فتحت قضية تيران وصنافير ملف الوثائق المصرية وأين أماكنها وكيف نستطيع ان نحافظ عليها، كان من الممكن ان تكون الملفات كاملة وحاسمة أمام الرأي العام بما يحسم القضية والمطلوب الآن من مؤسسات الدولة السيادية ان تراجع موقفها من هذه الوثائق وتسعى لاستكمالها سواء كانت لدى أشخاص أو جهات وأجهزة إدارية، ان المؤكد ان الوثائق مبعثرة في أكثر من مكان ولدى أكثر من شخص والمطلوب تجميعها وأرشفتها بما يحافظ عليها.. وبعد ذلك ينبغي ان تكون لنا وقفة أمينة فيها قدر من الشفافية حول أحداث مازلنا نعيشها حتى لا تسقط كما سقطت صفحات أخرى من تاريخنا بين العبث والإهمال. ..ويبقى الشعر مَاذا أخذتَ مِنَ السَّفَرْ.. كُلُّ البلادِ تَشَابَهَتْ فى القهْر.. فى الحِرْمان ِ.. فى قَتْل البَشَرْ.. كُلُّ العيُون تشَابَهتْ فى الزَّيفِ. فى الأحزان ِ.. فىَ رَجْم القَمَرْ كل الوُجوهِ تَشابَهتْ فى الخوْفِ فى الترحَال.. فى دَفْن الزَّهَرْ صَوْتُ الجَمَاجِم فى سُجُون اللَّيل والجَلادُ يَعْصِفُ كالقَدَر.. دَمُ الضَّحَايَا فَوقَ أرْصِفَةِ الشَّوارع فى البُيوتِ.. وفى تجاعيدِ الصَّورْ.. مَاذا أخَذتَ منَ السَّفَر؟ مَازلتَ تَحلُمُ باللُّيالى البيض والدِّفْء المعَطّر والسَّهَرْ تَشْتَاقُ أيامَ الصَّبابَةِ ضَاعَ عَهْدُ العِشْق وانْتَحَر الوَتَرْ مَازلتَ عُصفُورًا كسِير القَلْبِ يشدُو فَوْقَ أشْلاءِ الشَّجَرْ جَفَّ الرَّبيعُ.. خَزائِنُ الأنَهار خَاصَمَها المَطَرْ والفَارسُ المِقْدامُ فى صَمت تراجَعَ.. وانتحَرْ.. مَاذا أخَذْتَ مِنَ السّفَر؟ كُلُّ القصَائِدِ فى العُيُون السُّودِ آخرُهَا السَّفَر.. كلُّ الحَكايَا بَعْدَ مَوْتِ الفَجْر آخرُها السَّفَر.. أطْلالُ حُلمِكَ تَحْتَ أقدام السِّنِين.. وَفى شُقُوق ِ العُمْر. آخُرها السَّفَر.. هَذِى الدُّمُوعُ وإنْ غَدَت فى الأفق ِ أمطَارًا وزَهْرًا كانَ آخَرُهَا السَّفَر كُلُّ الأجِنَّةِ فى ضَمِير الحُلْم ماتَتْ قَبْلَ أن تَأتِى وَكُلُّ رُفَاتِ أحْلامِى سَفَر.. بالرَّغْم مِنْ هَذا تَحنُّ إلى السَّفَر؟! مَاذا أخذْتَ مِنَ السَّفَر؟ حَاولتَ يومًا أن تَشُقَّ النَّهْر خَانَتْكَ الإرَادَهْ حَاوَلتَ أنْ تَبنِى قُصورَ الحُلْم فى زَمن ِ البَلادَهْ النبضُ فى الأعْمَاق يَسقُط ُ كالشُّموس الغَاربهْ والعُمْر فى بَحْر الضَّياع الآنَ ألقَى رأسَه فَوقَ الأمَانِى الشَّاحِبهْ.. شَاهَدْتَ أدْوارَ البَراءةِ والنذالةِ والكَذِبْ قَامْرتَ بالأيام فى "سِيْركٍ" رَخيص ٍ للَّعِبْ والآنَ جئْتَ تُقيمُ وَسْط َ الحَانَةِ السَّودَاءِ.. كَعْبَهْ هَذا زَمانٌ تُخْلَعُ الأثوابُ فِيهِ.. وكلُّ أقدار الشُّعوبِ عَلى الَموائِدِ بَعض لُعْبهْ. هَذا زَمانٌ كالحِذاء.. تَراهُ فى قَدَم المقَامِر والمزَيِّفِ والسَّفِيهْ.. هَذا زَمَانٌ يُدْفَنُ الإنسَانُ فِى أشْلائِه حيّا ويُقْتلُ.. لَيْسَ يَعرفُ قَاتِليهْ.. هَذا زَمانٌ يَخْنُقُ الأقمَارَ.. يَغْتَالُ الشُّمُوسَ يَغُوصُ.. فى دَمِّ الضَّحَايَا.. هَذا زَمَانٌ يَقْطَعُ الأشْجَارَ يَمْتَهنُ البرَاءَة َ يَسْتَبيحُ الفَجْرَ.. يَسْتَرضى البَغَايَا هَذا زَمَانٌ يَصلُبُ الطُّهْر الَبرىءَ.. يُقيمُ عِيدًا.. للْخَطَايَا.. هَذا زَمَانُ الموْتِ.. كَيْفَ تُقِيمُ فوقَ القَبْر عُرسًا للصَّبايَا ؟! عُلبُ القمَامَة زينُوهَا رُبَّمَا تبْدو أمَامَ النَّاس.. بُسْتَانًا نَديّا بَينَ القمَامَة لنْ ترَى.. ثوْبًا نَقِيّا فالأرْضُ حَوْلكَ.. ضَاجَعَتْ كلَّ الخطايَا كيْفَ تحْلم أنْ تَرى فيهَا.. نَبيّا كُلُّ الحَكايَا.. كانَ آخرُهَا السَّفَر وَأنا.. تَعِبْت مِنَ السَّفَر.. قصيدة "ماذا أخذت من السفر" 1986 نقلا عن جريدة الأهرام