من حق الشعب أن يعرف المعلومات الكاملة.. حول كيفية الخروج من أزمة العلاقات المصرية الأمريكية بالسماح للأمريكيين المتهمين في قضية التمويل الأجنبي بمغادرة البلاد.. وهل تم في الإطار القانوني والطرق الشرعية أم صفقة سياسية.. أم رضوخ للضغوط والإملاءات الأمريكية؟ من حق الناس أن تفهم بعد أن ضربت رأسها بقوة التساؤلات الحائرة بشأن القضية، مثلما هو الحال في كل شيء في مصر الآن.. الجميع يسأل.. ولا أحد يجيب.. إلا بالتخمينات والافتراضات.. القضية جناية.. أم جنحة؟!.. هل تدخل أحد أو جهة في عمل القضاء؟!.. وهل جاء التدخل من مسئول أو شخص في أسرة القضاء نفسها، أم من أي سلطة أخرى؟!.. هل القرار برفع حظر السفر نابع من ضمير القاضي أو من أصدره أم نتيجة الضغوط؟!.. وهل هي ضغوط داخلية أم أمريكية؟!.. وما هو شكل الضغوط الأمريكية التي مارستها علينا وأسبابها ودوافعها؟!.. وإذا كان ما تم صفقة.. فما هي؟!.. وكيف تمت المواءمة السياسية فيها؟!.. لابد من الكشف عن كل هذه التفاصيل وبصراحة ووضوح وأمانة.. دون التفاف على الحقيقة، التي أصبح من حق الشعب أن يعرفها كاملة.. وإذا كان الأمريكان قد نجحوا في أول اختبار لمصر بعد الثورة.. فمن حق المصريين أن يعرفوا أنهم يعيشون في بلد جديد.. رفعت ثورته شعار الحرية والكرامة والعدل.. ولابد أن يطمئنوا أن شعار الثورة لم يسقط مع أول اختبار على أرض الواقع في قضية التمويل الخارجي.. القضية التي مست صميم سيادة القانون وأمن مصر القومي وكرامة شعبها وحرية واستقلال قرارها. عندما هددت أمريكا عام 1964 بقطع المعونة عن مصر كإحدى أوراق ضغطها على الرئيس الراحل جمال عبدالناصر لتعديل سياساته الخارجية ودعمه لحركات التحرر العربي والإفريقي.. قال عبدالناصر كلمته الشهيرة في خطابه يوم 23 ديسمبر احتفالا بذكرى انتصارات حرب السويس "إذا كان الأمريكان بيفهموا انهم بيدونا المعونة علشان يتحكموا فينا وفي سيادتنا.. أنا باقول لهم متأسفين إحنا مستعدين نقلل استهلاكنا ونحافظ على استقلالنا.. وإذا كان سلوكنا مش عاجبهم يشربوا من البحر". وعندما حاولت البلدان تنقية أجواء العلاقات بينهما عام 65 وتوقيع اتفاق جديد للمعونات.. استشعر عبدالناصر قيودا متشددة تضعها أمريكا.. فأكد ثانية على موقف مصر قائلا: "إن الحرية التي اشتريناها بدمائنا لن نبيعها بالقمح أو الأرز.. لقد أوقفوا معونات القمح الأمريكية لأننا نتحدث عن إسرائيل ونفكر في إنتاج الصواريخ والأسلحة الذرية..". ولم نأخذ المعونات ولم يشرب الأمريكان من البحر، حتي شربنا نحن ذل هزيمة 67.. مع كامل التقدير لنزعات الكرامة والوطنية في دبلوماسية عبدالناصر.. التي كنا نتمنى أن نحافظ عليها.. وتؤتي ثمارها في حماية مصر والمصريين. وهكذا استمر الحال حتى عادت المياه إلى مجاريها بعد انتصار أكتوبر وفرض الإرادة المصرية على أمريكا وإسرائيل نفسها.. ورأى الدبلوماسي المحنك اليهودي هنري كيسنجر استخدام المساعدات الأمريكية كأداة فعالة في دبلوماسية الشرق الأوسط. وتم النص على هذه المساعدات في اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل وكأنها الحبل السري الذي تم تقييد مصر به داخل الكهف الأمريكي الذي لا تستطيع الفكاك منه أو رفض أوامره وتتحمل رغماً عنها "رزالته".
لم نستطع خلال سنوات طويلة أن نقول "للغولة عينك حمرا".. أو نستخدم كلمة.."لا".. مرة واحدة.. وبالطبع لا يمكن أن نتجرأ ونقول "اللي مش عاجبه يشرب من البحر".. حتى جاءت لحظات مصر التاريخية بعد ثورة 25 يناير.. ساد العالم والأمريكان في مقدمتهم حالة من الذهول أولا.. ثم حالة ترقب.. وأخيرا حالة من جس النبض، هل امتلك المصريون ارادتهم؟. هل قرارهم أصبح مرتهناً بمصلحتهم؟. هل تستطيع مصر أن تقول للأمريكيين.. "لا".. أو "اشربوا من البحر"؟. وكيف يمكن تطويع السياسة المصرية الخارجية في الوقت الراهن.. ومستقبلا مع أي رئيس جديد منتخب؟. والأمريكيون لا يتركون شيئاً للصدفة.. فإذا كانت مفاجأة الثورة أذهلتهم.. فلا يمكن أن تتوه منهم عقولهم، لتسيير الأمور لمصلحتهم.. وجميع السيناريوهات معدة في مراكز الدراسات ودوائر صنع القرار.. بدءاً من تطويع القرار المصري بتفاهمات المصالح.. ثم الضغوط والترهيب.. وحتى إثارة الفوضى والقلاقل وإسقاط الدولة. وهي الظواهر التي لفتت الانتباه لحالة الكرم الأمريكي بالإغداق بملايين الدولارات على أشخاص وجمعيات ومنظمات أهلية مصرية وأجنبية.. "مليار جنيه مصري، خلال شهور ستة، ضختها أمريكا داخل مصر دون أن تعلم أي جهة حكومية أو رقابة مالية عنها شيئاً".. لا تعرف الأشخاص ولا المبالغ ولا البرامج والأهداف المرصودة من أجلها.. والطريف أن أمريكا هي التي أعلنت ذلك، في إطار استكمال مسلسل ضحكها على المصريين.. بأن هذه الأموال لمساعدة الثوار واستكمال أهداف الثورة. تلاقت جميع الخيوط وأصبح لدينا ما عرف بقضية التمويل الخارجي لمنظمات غير شرعية على أرض مصر.. وهي القضية الوحيدة التي لاقت اتفاقا بين الشعب المصري منذ قيام الثورة. وجسدت التوحد لكل الطوائف والتيارات السياسية والقوى الوطنية في مواجهتها.. والتأييد الكامل للحكومة والمجلس العسكري في عدم الرضوخ لأي ضغوط أو تهديدات للسماح للأمريكيين المتهمين في القضية بالسفر. نشوة الكرامة والكبرياء استحوذت على الجميع.. شعبا وحكومة.. قالوا: مصر لن تركع إلا لله ولن تخضع لضغوط حتى لو متنا من الجوع.. قضاء مصر عادل ونزيه.. ولن نفرط في سيادتنا وحريتنا ومصلحة بلدنا مهما كلفنا ذلك، حتى لو كان بقطع المعونة الأمريكية التي نقبلها على مضض.. وآن الأوان لأن نبني مصر بأيدينا ونأكل من ثمرة عملنا.. وهتف داخلنا بقوة "اللي مش عاجبه يشرب من البحر". ولكننا نقولها هذه المرة بثقة في أنفسنا وأننا قادرون على تخطي المأزق الراهن والتخلص نهائيا من أغلال قيود منح أو قروض أجنبية كانت أو عربية. المحن علمت مصر أن تخرج منها الأقوى دائما.. ومحنتنا هذه المرة ليست نقمة من قرارات غير عاقلة أو إجراءات خاطئة، ولكنها بتدبير وتآمر من يجتهدون لتغيير مسار الثورة من الطريق إلى مصر الجديدة القوية المعاصرة.. إلى طريق الفوضى والفقر!
ولكن يبدو أن الأمريكيين لا يشربون من البحر.. إما بنجاح ضغوطهم.. أو سوء إدارتنا للأزمة.. التصريحات القوية من المسئولين المصريين، قابلتها تصريحات مستفزة من المسئولين وأعضاء الكونجرس الأمريكي.. جون ماكين السناتور الجمهوري قال: "إن علاقتنا بمصر حيوية ولكن راحة مواطنينا هي الأكثر حيوية وأهمية".. وذلك في إطار حملته لقطع المعونة عن مصر.. ونافسه زميله الجمهوري راند بول بقوله: "إن الرسالة لابد أن تكون واضحة وحاسمة لنؤكد للجميع أن أمريكا لن تتساهل مع أي دولة تحتجز مواطنيها". هؤلاء الأسود أمام إسرائيل نعامة خائفة.. حصلت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة من أمريكا على أكثر من 120 مليار دولار نقدا خلال السنوات الثلاثين الماضية، وتعاملت مع أمريكا طوال هذه الفترة بمنطق "اعطنا مالك.. وخليك في حالك". لم يستطع أمريكي واحد لا مسئول ولا عضو كونجرس أن يفتح فمه في أي شأن له علاقة بإسرائيل، حتى عندما أهانت رئيسهم، وعندما ذبحت الفلسطينيين بسلاح بارد. لم تكن وزيرة الخارجية الأمريكية في حاجة لكي تعلن أمام لجنة الاستماع بالكونجرس الأمريكي عشية انعقاد محكمة المتهمين الأمريكيين في التمويل الخارجي ان القضية في طريقها للوصول إلى حل ودي.. وهو في مفهوم السياسة وجود صفقة.. وصفقة تعني انها بعيدة عن العمل القانوني أو السيادة ولكنها لغة تبادل المصالح.. تنازل من كلا الطرفين.. وعندما قالت كلينتون ذلك.. فهي تعي ما تقول جيدا.. ورسالة للرأي العام الأمريكي وللعالم أجمع أن أمريكا مازالت هي سيدة العالم.. ولا ترضخ لأي قوانين ولا يهمها غير سيادتها وأن الأمريكي فوق كل القوانين.. وأن القوي هو صاحب اليد العليا. حتى لو تغير العالم كله.. وحتى لو كانت مصر بعد ثورة 25 يناير.. الرأي العام المصري كان على استعداد تام لقبول قرار رفع أسماء المتهمين الأمريكيين من قوائم الممنوعين من السفر لولا التصريحات الفجة من كلينتون بالوصول إلى حل نتيجة الجهود الحثيثة لأمريكا مع مصر.. في السياسة.. نصب.. كذب.. احتيال.. تبادل منافع ومصالح.. "شيلني وأشيلك".. تفاوض.. كل شيء جائز.. العدو يصبح حبيبا.. والحبيب من ألد الأعداء.. لا عداوة دائمة ولا صداقة دائمة. ولكن المصلحة التي تتبدل وتتغير حسب الأحوال ومن وقت لآخر.. أما القانون.. عكس ذلك تماما.. عدل الله في أرضه.. السيف الباتر بين الحق والباطل.. وأصعب الأزمات بين أي دولتين، القضايا القانونية التي تختلط بها السياسة. فالغلبة دائماً ما تكون للأقوى، القادر على فرض شروط وممارسة ضغوط.. والضغوط الأمريكية في هذه القضية تعدت الحديث عن قطع معونة، إلى حصار كبير على مصر، في المؤسسات الاقتصادية والمالية الدولية.. في حركة الاستيراد والتصدير.. وما يدعو للغرابة أن ترهن الدول العربية الوفاء ببرامج مساعداتها لمصر الذي حددته بعشرة مليارات دولار، لحين الاطمئنان إلى استقرار عملية التحول الديمقراطي في مصر!!.. تخيلوا.. الأشقاء العرب يمنعون عنا القروض لحين ضمان حكم ديمقراطي!!.. بالطبع لأن أنظمتهم ملتزمة بالنظام الديمقراطي الأمريكي أو الإنجليزي..؟ أتفهم أن تمنع عنا أوروبا مبلغ 350 مليون يورو منحا في إطار برنامج "يورو ميد" لعامي 2011 2012 لحين استقرار الأوضاع والحكم.. ولكن أتعجب للموقف العربي الخليجي الذي يمنع عنا قروضا حددوا لها نسبة فائدة 6٪ بينما قروض المؤسسات الدولية 2٪.. وهو ما أرغم مصر على العودة إلى البنك الدولي وشروطه القاسية.
يستشعر كل مصري أن هناك مواءمة لدى الجميع اقتضت ما تم بشأن سفر الأمريكيين المتهمين في قضية، حسب توصيفها القانوني جنحة عقابها الحبس 6 شهور أو الغرامة 500 جنيه.. دون ضغوط أو مخالفة لضمير القاضي.. ولكن التخوف الأكبر ما يستشعره البعض أيضا من مسار التحقيقات في القضية، في مرحلتها الثانية حيث سيتم فتح التحقيق مع الجمعيات الدينية التي تلقت تمويلاً من الخارج وما سيترتب على ذلك خاصة في ظل صعود التيار الإسلامي وسيطرته على عدد كبير من المواقع التشريعية والتنفيذية. نقلا عن جريدة أخبار اليوم