نقلا عن / جريدة دار الخليج فى 21/9/2009 رغم أن كثيرا من المؤسسات الدولية والأنظمة السياسية ترفع شعار مقاومة الفقر، إلا أن الواقع يؤكد أن اتساع دائرة الفقر مستمر على مستوى الدول والشعوب والأفراد، وأن العلاج الناجح يجب أن يبدأ من داخل الإنسان ذاته وبيده وعقله وليس بالآلات والإجراءات. في سياق العلاج الإسلامي للفقر وعطاءاته الحضارية في هذا الشأن يقرر الدكتور علي حافظ منصور أستاذ الاقتصاد في جامعة القاهرة أن الدخل الذي يحصل عليه الإنسان من العمل أو النشاط الذي يمارسه، يجب، إسلاميا، أن يفي له بمجموعة أساسية من السلع والخدمات، وإذا لم تتوافر هذه المجموعة من الاحتياجات خاصة في المسكن والمأكل والمشرب وغيرها من الأمور الضرورية اليومية يكون في هذه الحالة فقيرا. والفقر يجعل صاحبه يعاني معاناة شديدة في الحياة لتلبية بعض حاجاته الضرورية له ولمن يعول، فلا يستطيع إشباع هذه الحاجات الأساسية من مأكل ومشرب وملبس فتزيد معاناته النفسية في الحياة وتضعف قدرته البدنية والذهنية على العمل. مدخل للعنف والإجرام لمشكلة الفقر كما يضيف الدكتور حافظ آثار اقتصادية خطيرة أهمها انخفاض مستوى الأداء الاقتصادي نتيجة لقلة الدخل وقلة الإنتاج، وهذا يؤثر سلبيا في الموارد المالية في المجتمع فلا يستطيع تنفيذ المشروعات التنموية المختلفة. كما أن عدم قدرة الفقراء على الإنفاق في الجوانب التعليمية والصحية وغيرها من الأمور المهمة يؤدي إلى سوء الأحوال المعيشية والتي تدفع بهؤلاء إلى السير في طريق غير مشروعة من أجل الحصول على المال وتوفير بعض الاحتياجات الضرورية فتظهر السرقات والتسول والرشوة وتجارة المخدرات والدعارة والعمليات الإرهابية، فالفقر أحد أهم الأسباب التي تدفع البعض لارتكاب مثل هذه الأعمال غير المشروعة فتزيد معدلات الجرائم وينتشر الفساد في المجتمع ويضيع الأمن. مقاومة سوء الإدارة وتأكيدا لخطورة الفقر النفسية والاجتماعية تؤكد الدكتورة عزة كريم الخبيرة بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية أن الفقر يعتبر أهم أسباب الجريمة والجهل والتخلف الحضاري في أي مجتمع، ومن هذا المنطلق يمكن اعتبار أي مجتمع يتسم بالفقر هو مجتمع متخلف علميا وتكنولوجيا وصحيا أيضا. وعندما ننظر إلى الفقر في العالم وخاصة في بلاد دول العالم الثالث، يمكن أن نميز بين نوعين من الفقر.. النوع الأول وهو الفقر الناتج عن نقص الموارد والإمكانات وكثرة الحروب داخل المجتمع.. والنوع الثاني وهو الفقر الذي يأتي من خلال سوء الإدارة والنظام وعدم العمل. والنوع الأول من الفقر، رغم أنه يؤدي إلى النتائج ذاتها إلا أن الشعب نفسه لا يعاني من عقدة الاضطهاد، والشعور بالحرمان، والظلم، لأن الظروف والأوضاع التي يعيشها المجتمع هي التي أدت إلى هذا الفقر، ومن هنا يمكن القول إن هؤلاء الفقراء قد يشعرون بالانتماء لوطنهم ويسعون من أجل الخروج من دائرة الفقر. وبالنسبة للنوع الثاني، وهو الناتج عن سوء النظام، وسوء الإدارة، حيث يمتلك النظام الحاكم وسائل الثروة، وهو ما يمكن أن نسميه “فقرا مصطنعا” لأنه جاء نتيجة لسوء الإدارة. ففي هذا المجتمع لا يشعر الفقراء بالانتماء بل يشعرون بالظلم والاضطهاد والإحباط، وكل هذا يولّد العنف وعدم التوازن داخل المجتمع. غنى النفس والإسلام في هذا المجال، لا يدع الإنسان يقع أبدا صريع الاحباطات التي قد تنتج عن الفقر، ولا يعتبر الفقر مبررا أبدا للاحتقان النفسي أو العنف الاجتماعي. تقول الدكتورة عزة: إن المؤمن راض أولا بما قسمه الله له، كما أنه آمن على رزقه، وفي الوقت نفسه مطالب دائما بالعمل والكد والسعي في مناقب الأرض. والنصوص الشرعية كثيرة في هذا الصدد. حيث يقول الحق: “مَا أَصَابَ مِن مصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ من قَبْلِ أَن نبْرَأَهَا إِن ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللهُ لَا يُحِب كُل مُخْتَالٍ فَخُورٍ”. وفي الحديث الشريف: “ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس”. وهذا في تصوري بداية الكد والعمل والعلاج السلوكي للفقر وآفاته. منهج شامل والمنهج الإسلامي في القضاء على الفقر منهج شامل.. كما يؤكد الدكتور محمد شوقي الفنجري المفكر الاقتصادي المعروف.. حيث يقول: إن الإسلام اهتم بمشكلة الفقر وجعلها في مقدمة اهتماماته فكما اهتم بالجوانب الروحية للإنسان اهتم أيضا بالجوانب المادية. وقد جعل الإسلام العمل وطلب المال الحلال جهادا في سبيل الله عز وجل، كما ساوى الإسلام بين الكفر والفقر فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر”. ومن هنا كان ترك المجتمع لفرد جائع بمثابة تكذيب للدين كما يقول القرآن الكريم: “أَرَأَيْتَ الذِي يُكَذبُ بِالدينِ فَذَلِكَ الذِي يَدُع الْيَتِيمَ وَلَا يَحُض عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ”. عمارة الأرض كما جعل عمارة الأرض فريضة وعبادة حيث العمل والإنتاج والبناء فيقول ربنا: “هُوَ أَنشَأَكُم منَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا” واعتبر الإسلام سعي الإنسان في طلب الرزق من أفضل طرق العبادة والتنمية الاقتصادية والإسلامية هي تنمية شاملة غايتها الإنسان ليكون بحق خليفة الله في الأرض. وملكية الإنسان للمال في الإسلام ليست مطلقة لأن المال مال الله وأن البشر مستخلفون في هذا المال. وإذا نظرنا إلى الملكية الخاصة في الإسلام سنجد أنها مشروطة بتوفير الحد الأدنى للمستوى المعيشي اللازم والذي يعبر عنه بحد الكفاف والذي يحققه لكل من يعيش داخل المجتمع الإسلامي مسلما كان أو غير مسلم. زكاة المال ويشير د. رضا شعبان جاد أستاذ الفقه بكلية الشرعية والقانون بطنطا جامعة الأزهر إلى الزكاة باعتبارها أحد أهم برامج الشريعة الإسلامية في مواجهة مشكلة الفقر، ونتيجة لدورها الكبير جعلها الإسلام فرضا على أغنياء المسلمين وركنا من أركان الإسلام الخمسة، وجاء الأمر في القرآن الكريم بهذه الصيغة “وَآتُواْ الزكَاةَ” ويقول القرآن أيضا: “خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهرُهُمْ وَتُزَكيهِم بِهَا”. ومصارف الزكاة حددتها الآية القرآنية: “إِنمَا الصدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السبِيلِ فَرِيضَةً منَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ” إن أول مصارف الزكاة للفقراء والمساكين، وهم الذين يعانون الفقر، فأول ما ركزت عليه الزكاة هو مواجهة مشكلة الفقر باعتبارها أهم المشكلات في المجتمع. والزكاة عندما تدفع تمثل أعلى درجات الترابط والتكافل الاجتماعي داخل المجتمع، فالأغنياء يعلمون أن المال هو مال الله وأنهم مستخلفون في هذا المال فيخرجون زكاة أموالهم ويساعدون الفقراء والمساكين حتى يستطيعوا مواجهة أعباء وظروف الحياة. والزكاة تطهر النفس من الشح والبخل وتعوّد المسلم على البذل والسخاء والعطاء، وقد حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على جمع الزكاة وكذلك الخلفاء الراشدين من بعده، فها هو الصديق أبو بكر يقول: “والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليه”. ويوم أن كانت الزكاة تجمع من أغنياء المسلمين جميعهم فاضت الأموال وتم إنشاء بيت المال في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، ولم يكن هناك جائع أو فقير إلا وجد ما يحتاجه من بيت مال المسلمين فحققت الزكاة أهدافها في مساعدة الفقراء والمساكين ونشر روح المودة والتعاون بين الأغنياء والفقراء. الإنتاج والإنفاق ويقول د. عبد المهدي عبد القادر الأستاذ في كلية أصول الدين بجامعة الأزهر إن المنهج الإسلامي يدعو للعمل والإنتاج، وعدم التكاسل، والتواكل، كما يدعو أيضا إلى عدم الإسراف أو التبذير، ويؤكد على الوسطية والاعتدال فيقول ربنا: “وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُل الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً محْسُوراً”. فالإسلام يدعونا للعمل وللكسب والاقتصاد وعدم التبذير فكما يرفض الشح والتقتير يرفض أيضا الإسراف والتبذير فكلاهما مذموم. ومن أهم أسباب دفع الفقر عن الأمة، شيوع المودة والتعاون بين أفراد المجتمع الغني والفقير حيث يعطي الغني لأخيه الفقير ولا يبخل عليه كما قال صلى الله عليه وسلم: “ليس المؤمن من بات شبعان وجاره جائع وهو يعلم”. والإسلام يدعونا إلى الإنفاق، مع اليقين بأن الله سيخلفه، فيقول ربنا عز وجل “وَمَا أَنفَقْتُم من شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ” وهذا دافع قوي للمسلم أن ينفق في سبيل الله متيقنا بما سيخلفه الله عليه فلا يبخل على إخوانه الفقراء. ويؤكد الإسلام أن طاعة المولى عز وجل أوسع أبواب الرزق، وأن المعصية تنزع البركة، وتجلب الفقر فيقول سبحانه: “وَلَوْ أَن أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ منَ السمَاءِ وَالأَرْضِ، وَلَكِن كَذبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ”. كما أن الاستغفار عبادة تورث الغنى، وزيادة الذرية، وكثرة النعم، كما جاء في القرآن الكريم: “فقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبكُمْ إِنهُ كَانَ غَفاراً يُرْسِلِ السمَاء عَلَيْكُم مدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لكُمْ جَناتٍ وَيَجْعَل لكُمْ أَنْهَاراً”. ومن أسباب دفع الفقر وطلب الغنى بر “الوالدين وصلة الرحم”، فهاتان الطاعتان يعجل الله خيرهما فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه”. التكنولوجيا والاستثمار وفي الوقت الحالي كما يؤكد الدكتور فوزي عبد الستار أستاذ الاقتصاد بجامعة عين شمس فإن المسلمين مطالبون بمنطق الشرع والمصلحة أن يضعوا برامج عاجلة لعلاج فقر الدول والشعوب وضرب النموذج الطيب لدول العالم.. بحيث يقوم هذا العلاج على عدة محاور.. من أهمها: التنمية الشاملة للإنسان والمجتمع وأدوات الإنتاج، واستثمار الأموال الإسلامية الطائلة في أرض المسلمين، وتأسيس شركات صناعية ضخمة تستوعب اليد العاملة تحقق الاكتفاء الذاتي، والأخذ بأحدث أساليب التكنولوجيا في الإنتاج، وتوفير احتياجات المواطنين وتأكيد مفهوم العدالة الاجتماعية بمفهومها الإسلامي والإنساني الشامل.