يبدو أن التونسيين منذ شهر يناير (كانون الثاني) الماضي وإلى اليوم وهم يضربون الموعد تلو الموعد مع المفاجآت. المفاجأة الأولى كانت مع اندلاع الثورة التي أدارت أعناق العالم كافة، إذ لم يتوقع أحد أن تطلق تونس صافرة الثورات في العالم العربي، وتجر وراءها مجتمعات أخرى أكثر توترا منها، وأكثر مشاكل تنموية. المفاجأة الثانية حصلت يوم 23 أكتوبر (تشرين الأول) الجاري، حيث أشارت أغلب التوقعات إلى أن نسبة المشاركة في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي لن تكون وفق الانتظارات. وقد استندت هذه التوقعات إلى ظاهرة عزوف التونسيين عن تسجيل أسمائهم في مكاتب دوائر انتخابات المجلس التأسيسي، إذ بلغت نسبة التسجيل في أواخر شهر يوليو (تموز) 16% فقط من مجموع قرابة سبعة ملايين ناخب، مما أدى إلى التمديد في آجال التسجيل. غير أنه عندما جاء اليوم الموعود أي الأحد 23 أكتوبر تمت الإطاحة بهذه التوقعات وأظهر الشعب التونسي حماسة في المشاركة، متجاوزا بذلك رسالة العزوف التي ربما يكون قد أرسلها للنخب السياسية مكرا وتمويها. لذلك، فإن بلوغ نسبة المشاركة الخمسين في المائة من مجموع العدد الكلي للناخبين شكل مفاجأة بكل المقاييس، وهي مفاجأة سارة لا تقل دلالة ووقعا عن المفاجأة التي أحدثها الشعب التونسي عندما قرر وضع حد للصمت والسلبية والخروج إلى الشارع مطالبا بسقوط النظام ورحيل رأسه. المفاجأة الثالثة التي أربكت المجتمع التونسي وأصابت بعضه بالفجيعة هي النتائج التي أسفرت عنها الانتخابات ذاتها، والتي من أبرز عناوينها تقدم حركة النهضة وهزيمة الأحزاب الرافعة لشعار الحداثة والانفتاح، وتعزيز مكاسب الحرية والمساواة والشراكة. نتائج أحبطت السواد الأعظم من النخب السياسية والفكرية التي باتت تشعر بحجمها الضئيل وتأثيرها الضعيف، على أثر خوض تجربة الميدان والحرية والشفافية والديمقراطية. وفي الحقيقة، النجاح الذي حققته حركة النهضة، والصعود الذي أذهل الجميع لحزب العريضة الشعبية، يستلزمان مراجعة سياسية عميقة وجادة ولاذعة من طرف الأحزاب الخاسرة التي مثلت خسارتها مفاجأة أيضا. فنجاح النهضة ظاهرة معقدة وغامضة تستحق التحليل النفسي الاجتماعي تماما، كما تتطلب تحليلا سياسيا. وهنا يفرض السؤال التالي نفسه: كيف نفسر فوز حركة النهضة ذات الخلفية الدينية بأغلبية الأصوات، وبالتالي المقاعد، والحال أن الثورة التي اندلعت يوم 14 يناير نادت بالكرامة المادية والحق في العمل والتوزيع العادل للثروات؟ لقد عرفت «النهضة» من أين تؤكل الكتف، ولم تكتف بالتعويل على الحضور الإعلامي والتنقل من برنامج إلى آخر كما فعلت أغلب الأحزاب، وبعض الوجوه المستقلة التي اعتقدت أن الحضور الإعلامي جواز سفر إلى أصوات الناخبين التونسيين، بل إن حركة النهضة قد راهنت على الاتصال المباشر والتركيز على الأحياء الشعبية، وتوظيف عناصر على دراية تامة بكيفية استقطاب الناخبين، أي إنهم استفادوا من بعض جوانب طريقة عمل الآلة الانتخابية للتجمع الدستوري الديمقراطي المنحل، وأيضا غنموا كثيرا من غيابه، ولم تستفد الأحزاب التي نادت بحله بأي غنيمة سياسية بقدر ما ساهموا بحكم ضعف الخبرة في فسح المجال السياسي على مصراعيه لحركة النهضة والمتحالفين معها. لذلك، فإن تونس اليوم هي منقسمة بين المفاجأة والفجيعة، والواضح أن الخاسرين اختاروا التمركز خلال الفترة القادمة في جبهة المعارضة، وهو ما يعني أن حركة النهضة وإن كانت محسودة على فوزها، إلا أنها لا تحسد على ما ستجابهه من تجاذبات، فجبهة الحداثة في تونس لا تقل صمودا وشراسة وتجذرا في النسيج الاجتماعي التونسي. نقلا عن صحيفة الشرق الاوسط