في قصة العسكري الأسود ليوسف إدريس تتجسد المأساة في أن جندي الأمن السياسي الذي أدمن تعذيب البشر أصبح في النهاية كلبا مسعورا يأكل نفسه.هل انتهت حكاية جهاز مباحث أمن الدولة وتاريخه الأسود مع المواطنين عند مجرد تغيير. الاسم إلي جهاز الأمن الوطني؟ هل مجرد تغيير اللافتة يعني أن التغيير قد حدث؟ بالقطع لا. فلكي يحدث التغيير المنشود يجب أن تجري سلسلة متتابعة من الإجراءات لم يحدث منها شيء واحد حتي الآن. مثلا, نحن لم نسمع عن عقد جلسات استماع علنية يجري فيها التحقيق علي رؤوس الأشهاد وينقلها التليفزيون والراديو مع حسن عبدالرحمن الرئيس السابق لمباحث أمن الدولة, وكل من سبقه وغيرهم من قيادات هذا الجهاز؟ لكي نعرف ماذا كان يجري بالضبط فيه, وكيف تصدر الأوامر؟ وما هي أولوياتهم؟ وكيف يتخذون قراراتهم؟ ويحضر في هذه الجلسات عينة عشوائية مختارة من ضحايا هذا الجهاز يوجهون الأسئلة كيفما شاءوا لكي يعرفوا بالضبط ما الذي أوقع حظهم العاثر في طريق هذه الآلة الجهنمية؟ والأهم من كل هذا, أن يفضح الضحايا طرق ووسائل التعذيب التي اتبعت معهم, وطرق وأساليب الاستجواب والتحقيق, ثم استقدام خبراء في الطب الشرعي, وعلم النفس, والقانون, لكي يفسروا معني هذه الوسائل, وهل هي قانونية أم لا, وماذا يتفق منها مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.. إلخ.. ثم هل لدي الضحايا صور فوتوغرافية, أو قصاصات لأفلام, أو ذكريات عما جري, ثم تقديم جلسات كاملة عن أشهر حالات التعذيب والقتل في التاريخ المصري علي أيدي عناصر هذا الجهاز وتقديمهم للمحاكمة, وتتكرر آلية جلسات الاستماع هذه كلما وقعت حادثة تثير الرأي العام حتي يكون الحساب فوريا. (2) لسوف يكون خطأ فادحا ألا يحدث ذلك فلكي يثق الناس بأن ما جري من هذا الجهاز المرعب لن يتكرر مرة ثانية يجب أن يتم إجراء تحقيق شعبي علني, وليستمر أي فترة من الزمن مهما تطل, وهذا التحقيق الشعبي العلني, هو أسلوب جلسات الاستماع في البرلمان, أو في الجامعات, خاصة كليات الطب والحقوق والعلوم السياسية, أو في مختلف مراكز الأبحاث ذات الصلة مثل المركز القومي لحقوق الإنسان, أو مركز الأبحاث الجنائية والقانونية.. إلخ.. وفوق هذا كله, لا ينتهي الأمر بعفا الله عما سلف, فلابد من محاكمات وعقوبات للمسئولين الذين يثبت إجرامهم, فتلك جرائم في حق الإنسانية لا تسقط أبدا بالتقادم, ولا يكفي فيها التعويض. ولسوف يكون من الخطأ أيضا, ألا يترتب علي هذا أن نستخلص الدرس الأساسي, وهو ضرورة محاسبة المذنب عما فعل, سواء كان هذا المذنب رئيس مباحث أمن الدولة, أو أدني جندي, أو أي مسئول سياسي مهما علا شأنه أو هانت مكانته. ليست القضية في الانتقام, بل في الحساب, ودون حساب, فلن تستقيم الأمور أبدا.كذلك, يلزم أن تنتقل تبعية جهاز الأمن الوطني من وزارة الداخلية إلي وزارة العدل, أو إلي مجلس القضاء الأعلي, أو إلي النائب العام, أو يكون جهازا مستقلا تماما له مجلس أوصياء للإشراف علي عمله وتوجيهه, ويضم هذا المجلس ليس جنرالا من الداخلية, بل وبقوة القانون مجموعة من أعضاء مجلس القضاء الأعلي الذين يتمتعون باستقلالية مطلقة عن الحكومة, ولا يخضعون لأي شخص, ولا حتي لرئيس الجمهورية. (3) لدينا في الدولة والحكومة المصرية مشروع وحش كامن في جسدها اسمه وزارة الداخلية ويلزم تقليم أظافره, وأهم طرق تحقيق هذه الغاية, هو نقل تبعية الانتخابات وكل ما يتعلق بها, وسجلات قيد المواطنين وأحوالهم الشخصية, وجهاز مباحث أمن الدولة إلي جهات أو هيئات مستقلة عن الوزارة, فضلا عن إخضاع قطاع السجون لإشراف فعلي وليس صوريا للنيابة العامة.. الهدف هو العمل بجدية وإخلاص علي منع أي اعتداء علي حرمة الحياة الإنسانية. والحقيقة أن لوزارة الداخلية المصرية ميراثا تاريخيا طويلا وسيئا من أيام المماليك والسخرة والجلد بالكرباج يتمثل في قهر وتعذيب وإهانة واحتقار وإهدار آدمية الإنسان المصري, وقد آن الأوان لهذا الميراث السييء أن ينتهي, وهذا لن يتحقق بمجرد اقتحام مكاتب أمن الدولة, ولا بسجن أو محاكمة وزير الداخلية وكبار معاونيه, فكما فسد أو أجرم الوزير السابق يمكن لأي وزير لاحق أن يرتكب جرائم. المهم هو وضع آليات وضوابط ليست قانونية أو قضائية فقط, بل لابد من إيجاد آليات كشف وتعرية وفضح أي جريمة ترتكب في حق إنسان تنطوي علي إهدار الآدمية أو احتقار له أو تعذيب.. وأولاها جلسات الاستماع العلنية ليعرف الناس جميعا ماذا يحدث أولا بأول.. عندها قد يختفي من الوجود ذلك العسكري الأسود الذي يظل يفترس الناس المسالمين لينتهي به المطاف كلبا مسعورا يفترس نفسه. *نقلا عن صحيفة الاهرام