ستظل اللعبة قائمة ودائمة وقادمة، وهى كيف يستطيع المبدع أن يهرب من قيود الرقابة، أعرف كاتبًا شهيرًا كان إذا أراد تمرير قبلة يكتب فى السيناريو أن البطل ينهال على البطلة بجحيم من القبل فيكتب الرقيب ملحوظة برجاء تخفيف هذا المشهد فيحصل الكاتب على قبلتين بدلًا من واحدة. وفى القضايا السياسية والاجتماعية الحساسة التى تعالجها الأعمال الفنية يصبح الأمر بالطبع أكثر ضراوة ومن الممكن فى هذه الحالة أن يلجأ الكاتب إلى استخدام حيلة البنجر.
«أم رتيبة» واحدة من القصص الساخرة للأديب الراحل يوسف السباعى، طلبت العروس من العريس حتى توافق على عقد القران أن يغير اسمه سيد بنجر، فتجاهل تمامًا أن المشكلة تكمن فى بنجر وتقدم إلى السجل المدنى بتغيير اسمه إلى «على بنجر».
وعلى طريقة البنجر، قرر المخرج عمرو سلامة أن يلعب مع الرقابة المصرية التى رفضت التصريح بتصوير سيناريو فيلمه «لا مؤاخذة»، لأنه يتناول قضية حساسة وهى العلاقة بين المسلمين والأقباط، من خلال طفل مسيحى فى المدرسة الإعدادية يعتقد الطلاب والأساتذة أنه مسلم لأن اسمه يحتمل الديانتين، وقال الأستاذ فى أول حصة بعد أن قرأ أسماء كل الطلاب «الحمد لله كلنا مسلمون»، ومن بعدها ظل الطالب خائفًا من الإفصاح عن ديانته.
تقدم المخرج بالسيناريو مرة أخرى إلى الرقابة مع تخفيف بعض المشاهد وأطلق عليه «سنة ثانية إعدادى»، فوافقت الرقابة، لا أذيع سرًا عندما أقول إن المخرج قال لى إنه سوف يعيد الاسم ويصور المشاهد المحذوفة ويعرض الشريط على الرقابة ليخوض مجددًا معركة ضارية للتصريح بالفيلم!
لماذا تتعنت الدولة فى التعامل دراميًّا مع تلك القضية؟ إنها الحساسية التى مع الأسف عندما نتناولها بحساسية مفرطة نبدو وكأننا نصب الزيت على النار.
الغياب الدائم والمتعمد للشخصية القبطية عن الدراما المصرية هو الذى أدّى إلى تلك المحاذير التى صارت محظورات وتزداد إحكامًا وتخنق الكتاب والمخرجين عندما ترفع شعار ممنوع الاقتراب، حتى الآن مثلًا غير مصرح بعرض فيلم «الخروج»، إخراج هشام العيسوى. الفيلم شارك قبل عامين فى مهرجان دبى وحصد أكثر من جائزة، إلا أنه غير مصرح بتداوله جماهيريًّا.
العديد من الأعمال الدرامية التى تناولت شخصيات قبطية أثارت قدرًا لا ينكر من الغضب، بعضها وصل إلى حد التظاهر داخل صحن الكنيسة الأرثوذكسية وأكثرها حدة كان فيلم «بحب السيما» 2004، الذى شكّلت الدولة للتصريح به أكثر من لجنة تعمّدت أن تزداد داخلها نسبة الأقباط، وذلك لامتصاص الغضب المحتمل، إلا أن مساحة الغضب فاقت كل الاحتمالات!!
هل نغلق تمامًا هذا الباب ونتجاهل أن نسبة -لا أستطيع تحديدها بدقة لأن من ضمن مظاهر الحساسية فى مصر أن جهاز السكان والإحصاء يخشى إعلان عدد الأقباط رسميًّا حتى لا يثير الغضب- فى كل الأحوال هناك ملايين من بين 90 مليون مصرى يدينون بالمسيحية، هؤلاء جزء فاعل فى المجتمع ولديه نفس الجينات والدماء ولا يمكن تجاهله بحجة أن مثل هذه الأعمال تثير تلك التى لعن الله من أيقظها، رغم أن الدراما هى أحد أهم الأسلحة لوأد أى مظهر طائفى لتلك التى لعن لها من أيقظها.
تعوّدنا فى الدراما أن نضع أوراق «السوليفان» على الشخصية المسيحية وكأننا نرفع راية مكتوبًا عليها ممنوع اللمس أو الاقتراب.. الإحساس العام الذى يسيطر غالبًا على صناع العمل الفنى أن المتفرج لا يريد أن يرى شخصية من لحم ودم وأنه فقط يقرأ عنوانها، لكنه لا يتعمّق فى تفاصيلها.. يبدو كأن هناك اتفاقًا ضمنيًّا على ذلك بين صناع العمل الفنى والجمهور.. الجميع ارتاحوا إلى استبعادها!! المتفرج بطبيعته لم يألف كثيرًا رؤية شخصيات قبطية من لحم ودم تحب وتكره تمارس الفضيلة وقد تنزلق إلى الرذيلة.. الحساسية التى نراها فى الشارع تنتقل أحيانًا إلى دار العرض، ولكن ليس معنى ذلك أن نتجاهل حضورها فى الشارع.
ليس من المنطقى بالطبع أن نتصور أن الغياب للأقباط عبر الشاشة هو الحل، ولكن هل يتمتع مجتمعنا بمرونة تسمح بأن نرى شخصيات قبطية عبر الشاشة. المبدع أمامه معركة مزدوجة واحدة مع الأجهزة الرقابية والثانية مع المجتمع الذى نراه أحيانًا أكثر تزمتًا من السلطة ولا بأس من أن يستخدم فى الحالتين سلاح «البنجر»!!