كتبت الدكتورة هبة رؤوف عزت في «الدستور» عن صناعة التطرف واستعادة الشرعية، وجاء تحليلها لظاهرة صناعة التطرف في بلادنا مقبولا إلي حد كبير، ولكن التطرف بديناميكيته الواقعية، كما شرحت صناعته الدكتورة باقتدار؛ ليس نقيضا لوسطية أمة الإسلام، إذ إن نقيض هذه الوسطية عدم الإيمان بها؛ بل ومحاربتها. تقول الآية الكريمة: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَي النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) - البقرة 143، فهذه الآية أتت في سياق حديث القرآن عن تغيير القبلة، من المسجد الأقصي إلي المسجد الحرام في مكة، وكان الجدل الذي أثاره المشركون والسفهاء حول هذا التحول بمثابة ابتلاء لأتباع محمد - صلي الله عليه وسلم-، ليعلم الله من يبقي علي اتّباعه ممن ينقلب علي عقبيه. فالحديث هنا عن وسطية القبلة (مركزية موقع مكةالمكرمة علي خارطة اليابسة)، ثم عن وسطية الأمة بين أمم الأرض، ولكي نفهم موقع أمة الإسلام بين الأمم كما أراد الله تبارك وتعالي؛ يجب أن ندرك أن أوسط الجبل هو قمته، وأوسط القمة هو الرسول - صلي الله عليه وسلم-، الشهيد الأعظم علي أوسط الأمم، التي بدورها تشهد علي من عداها من الأمم علي سفح وقاع الجبل، وقد قال الله تبارك وتعالي عن هذه الأمة الوسط إنها خير أمة أخرجت للناس: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بالله) - آل عمران 110، فكيف نفهم هذه الخيرية؟ وهل يمكن أن نعتبره تفضيلا من الله لهذه الأمة علي سائر الأمم؟ من الملاحظ أن العناية الإلهية لم تكن لتدع الإنسانية زمنا طويلا دون أنبياء، ودون الهداية والدعوة لعبادة الله تتنزل من السماء علي نبي أو رسول، بحيث لا ينقطع سلسال الهدي، (رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَي اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا)- النساء 165، وتتابع الرسل والأنبياء إلي أقوامهم، من آدم إلي نوح إلي آل عمران إلي آل إبراهيم، حتي جاء الوعد الحق، وأتم الله نعمته علي عباده بأن أرسل إليهم النبي الخاتم - صلي الله عليه وسلم - بالرسالة الخاتمة، ليصبح كل المؤمنين به وبها دعاة إليها، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله، وينتقل التكليف الإلهي بعد انتقال الرسول الأعظم إلي الرفيق الأعلي إلي صحابته وأتباعه وتابعيهم، ويصبح كل من آمن برسالة محمد صلي الله عليه وسلم داعية، وكل من صدقه وتبع خطاه شيخاً، يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر ويؤمن بالله، وانتقال التكليف بالدعوة منذ وفاة الرسول - صلي الله عليه وسلم - إلي أتباع الرسالة يعني استمرار مبادئها وانتشارها وغلبتها علي ما سواها من الدعوات، لأن النبي الخاتم بعثه ربه بالرسالة الخاتمة، ولا نبي يأتي بعده، بل إن كل من تبعه يكون - إن جاز القول - بمثابة نبي لأهله ومن حوله، ومن يتعامل معهم بالإخلاص في العمل، والتفاني في خدمة الناس، والبر والإحسان والصدق والتصدق وأداء الحقوق والتقوي، والاتسام بكل الصفات الحميدة التي يقتدي فيها برسول الله - صلي الله عليه وسلم -. وكل من أسلم وجهه لله وآمن بدعوة التوحيد التي أرسي قواعدها وأسسها محمد صلي الله عليه وسلم، هو مكلف بحمل هذه الدعوة، والجهاد في سبيلها باليد واللسان والقلب، وبذلك ينتمي إلي خير أمة أخرجت للناس؛ الأمة الوسط، ويكون من الذين يشهدون علي الناس بعد أن يشهد الرسول عليه، والمسلمون يتحمل كل منهم المسئولية عن جهل العالم بحقيقة الإسلام، وسنحاسب يوم القيامة علي هذا الفشل والتقصير، لأن الأنانية كانت طبعنا، والتواكل والركون إلي الدعة والاستسهال كانا دستور حياتنا، مع إننا مع ميلادنا لآباء وأمهات مسلمين قد طالنا التكليف؛ رضينا أم أبينا، واعتبرنا أن الله تعالي أحبّنا فولدنا مسلمين، وهي أسطورة أشبه ما تكون بأسطورة شعب الله المختار التي يؤمن بها اليهود. والله من وراء القصد.