أعتقد أننا دخلنا في مصر عصرا من توقع الشفافية مع الشعب في الأمور التي تخصه، وتؤثر على حياته ومعاشه ومستقبله، من أهم هذه الأمور آثار مصر، التي عمّى النظام السابق على كل ما له علاقة بها من قريب أو من بعيد، وعبر مائة الأعوام الفائتة، كانت الآثار المصرية مستباحة للملوك والرؤساء وإداراتهم، وللتجار وجشعهم، وللمشترين وأطماعهم، فقد اعتاد رؤساء مصر من جمال عبد الناصر مرورا بالسادات إلى الرئيس السابق مبارك؛ عادة نبعت من اعتبارهم البلد بما فيها ومن فيها ملكا خالصا لهم، هي عادة إهداء التماثيل الفرعونية التي لا تقدر بثمن إلى (أصدقائهم) الرؤساء والملوك. وهؤلاء المتلقون للهدايا كانوا يسلمونها إلى حكوماتهم لتعرضها في متاحف دولهم، ووصل الأمر بالرئيس السادات أن أهدى الرئيس الأمريكي كارتر معبدا فرعونيا كاملا هو معبد دندرة ! المعروض حاليا في متحف المتروبوليتان بنيويورك.
ولما أن هوى ربُّ البيت الضرب بالدف؛ فقد أصبح الرقص من شيم أهل البيت، وانقض تجار الحرام على آثار مصر، فأعملوا فيها سرقة وبيعا وتهريبا، وجنوا مليارات الأموال القذرة من التجارة الممنوعة فيها، دون رقيب أو حسيب، ومن هؤلاء التجار أسماء معروفة للكافة من أعضاء الحزب الحاكم المنحل، وممن لهم الصلات القوية بأهل الحكم والسلطة، وتحولت تجارة الآثار من المستوى العائلي ضيق الحدود في بعض عائلات الصعيد، كما في فيلم (المومياء)، إلى مستوى أهل الحكم والسلطة الذين (غسلوا) الأموال، وأتخموا حساباتهم في الخارج على حسابنا.
هذا بالنسبة لسرقة الآثار والاتجار فيها، وعلى الناحية الأخرى، وعلى عهد فاروق حسني وزير الثقافة الأسبق، ابتدعت الوزارة المهيمنة على مقاليد الآثار في البلاد، عبر المجلس الأعلى للآثار وأمينه العام الدكتور زاهي حواس؛ بدعة غريبة لا تقوم بها دولة في العالم، بدعة إخراج الآثار المصرية إلى معارض في الخارج، وكان للدكتورة نعمات أحمد فؤاد – متعها الله بالصحة والعافية – معارك عديدة مع وزارة فاروق حسني ضد هذا التصرف غير المسؤول الذي يقوم به مسؤولون، ولكن لم يُجد معهم اعتراض المعترضين شئ، وخرجت الآثار ولم تعد، إلى أمريكا وأوروبا وأستراليا، ومن الآثار التي خرجت ولم تعد حتى الآن؛ أثمنُ آثار التاريخ الإنساني؛ مجموعة آثار توت عنخ آمون، واحد وثلاثون ومائة قطعة لا مثيل لها خرجت ولم تعد، ومن (مُنِحت) له هذه الآثار الفريدة ليعرضها ليست الحكومة الأمريكية أو الأسترالية؛ وإنما جمعية أمريكية خاصة تربح الملايين من عرض آثارنا، والموضوع معروض أمام القضاء المصري..
ومن القضايا المهمة في موضوع الآثار المتحف المصري، وما آل إليه حاله في عهد (فاروق حسني مبارك)، هذا المتحف هو الوحيد في العالم الذي أنشأ ليكون متحفا، أي إنه لم يكن قصرا تحول إلى متحف، وبدأ بناؤه عام 1869 في عهد الخديو إسماعيل رحمه الله، واكتمل في عهد الخديو توفيق، وعصره الذهبي كان عام 1900 تحت إدارة جاستن ماسبيرو عالم المصريات الفرنسي.
إذا زرت حضرتك المتحف المصري هذه الأيام؛ فستجد ما لا يسرك.. فأرض المتحف الرخامية البيضاء غطيت ب (قنالتكس) ذي لون بني قذر، ألصقت بلاطاته ب(الزفت) الأسود، آه والله ! و(دواليب) القطع الأثرية متآكلة يعلوها والقطعَ الأثريةَ التراب، واللافتات التي تشرح وتصف القطع المعروضة مهترئة وقديمة ومطموسة، لأن حروفها كتبت بالآلة الكاتبة القديمة، والأقفال يعلوها الصدأ، وتستطيع أن تصور المومياوات إذا (راضيت) العسكري الجالس على باب حجرتها، والمتحف كله يحفل بالإهمال والقذارة والفساد، السمات الرئيسة لتعامل العهد السابق مع الآثار.
ونحن الآن؛ وقد دخلنا عهدا جديدا، نطلب من وزارة الدكتور قنديل الشفافية الكاملة في التعامل مع هذا الملف، ونتمنى أن يُحَكّم القائمون على الآثار في مصر ضمائرهم، فيكشفوا الحقائق بالشفافية المطلوبة، ويعرّوا سوءاتِ من سرقوا آثارنا وهرّبوها أو باعوها، فحرموا بلادنا مَيزة لا يحظى بها بلد في العالم.. واسلمي يا مصر.