عاد وجه خالى موريس ليطاردنى فى صحوى ومنامى.. تعوّد خالى - رحمه الله - أن يزورنى كلما عاشت مصر أياما كالتى نعيشها الآن، هذه المرة شعرت بحزن خالى يفوق كل حزن سابق، يلومنى لأن رجلا قام بحرق الإنجيل أمام الجميع، ولم يتخذ أحد أى إجراء ضده حتى الآن، بالعكس أصبح هذا الرجل ضيفا فى برامج «التوك شو»، يستضيفونه بحجة المهنية فيأتى ليكرر كلامه ويؤكد فخره بما فعل، ويعيد إهانته لخالى موريس مرات ومرات فيزيد ألمى وخجلى من خالى الراحل الجميل فلا أعرف ماذا أقول ولا كيف أعتذر له، كيف أسكت على ما يحدث، وكيف نقف جميعا مكتوفى الأيدى لا نستطيع إيقاف هؤلاء المتطرفين الذين يبثون سمومهم فى وجوهنا فيسيئون للمسلمين قبل أن يهينوا المسيحيين. جاء خالى هذه المرة ليذكرنى بالأيام الجميلة التى قضيتها معه فى بيته فى المنصورة.
لم تكن شهور الصيف بالنسبة لنا مجرد فرصة للهروب من المذاكرة والواجبات المدرسية وأوامر المدرسين والمدرسات، كنا ننتظرها بلهفة، إخوتى وأنا وأبناء أخوالى وخالاتى المقيمون فى القاهرة، لنشد الرحال إلى بيت خالى موريس.
كم كنا نحب هذا المنزل الواسع المتداخلة حجراته، كل غرفة كان لها بابان، أحدهما مفتوح على الصالة الكبيرة، والآخر يؤدى إلى الغرفة المجاورة، ندخل الغرفة الأولى من الصالة ونخرج من الغرفة الثالثة إلى نفس الصالة، لعبة جميلة تسعد الأطفال فيقضون فى لعبها عدة ساعات كل يوم.. تتخللها أوقات سعيدة أخرى فى بلكونات المنزل الثلاث التى تطل على حى الحسينية الشهير بالمنصورة، فتكشفه من جميع الجهات.
أخى أحمد كان الأكثر التصاقا بخالى موريس.. يعتبر نفسه أكبر من أن يلعب معنا - نحن الصغار - رغم أن عاما واحدا يفرقه عنى، يفضل الحديث مع خالى على اللعب، لا يمل أبدا من دروس خالى حول غية الحمام التى بناها فى البلكونة الكبيرة.
يحكى له عن عادات وطباع الحمام و طرق تربيته، ويقف أحمد مبهورا أمام قدرة خالى موريس على فهم هذا الطائر الصغير الذى يطير ويبتعد ثم يعود إلى عشته فى منزل خالى، مثلنا تماما، نعود كل صيف إلى هذا المنزل الذى أفتقده كثيرا الآن.. يقول أحمد: هذا الحمام - مثلنا - يحب هذا الرجل الجميل صاحب القلب الكبير والعينين الخضراوين.
أتعجب لقدرة خالى على التحكم بهذا العدد الكبير من الأطفال دون أن يفقد أعصابه ولو مرة واحدة،. لا أتذكر أننى ضبطت يوما خالى يحتد أو يؤنب واحدا من هؤلاء الأطفال رغم أخطائهم الكثيرة.
هانى - أخى الأصغر - وفؤاد - ابن خالى - دائما ملتصقان، نفس السن، ونفس الشقاوة وخفة الدم، ونفس الشبه.
عماد وصبحى وسمير، أصغر منهما قليلا، وإن لم يكونوا أقل شقاوة وإزعاجا.
مايكل ومنير، أصغر الأطفال وأكثرهم إزعاجا، كنا نستمتع بإصدار الأوامر لهما رغم أنهما يتجاهلانها طوال الوقت.
فايزة - ابنة خالى كمال - هى الأقرب إلىّ، ربما لأننا من نفس السن، وغالبا لأننا البنتان الوحيدتان وسط هذا العدد من الصبيان.
صباح كل يوم كنا نذهب لبيت خالتى تريز التى تعيش أيضا فى المنصورة، نلتقى ببناتها سميرة وسامية ومارى، نقضى هناك بعض الوقت ثم نعود جميعا إلى بيت خالى لنتناول معا طعام الغداء.
كان خالى يصر ألا يبدأ أحدنا طعامه قبل أن ينتهى هو من توزيع الكميات بالعدل على الجميع، كنا نضحك ونمتثل لأوامره وننتظر بفارغ الصبر أن ينتهى من مهمته حتى نبدأ فى إثارة الفوضى والخطف من أطباق بعضنا البعض!
وفى المساء نخرج للتمشية فى شارع السكة الجديدة أو على كورنيش المنصورة الجميل، وكل ليلة خميس ندخل سينما رويال لمشاهدة فيلم عربى جديدا كان أو قديما، وعندما نعود نجد خالى قد أعد الساندويتشات وفرش المراتب على الأرض، فنتبادل النوم يوما على السرير ويوما على المرتبة.
زوجة خالى موريس توفيت صغيرة، كان حزننا عليها كبيرا، كانت سيدة جميلة مبتسمة دائما، تملك حنانا يكفى الجميع ويزيد، كان فؤاد وعماد مازالا صغيرين فانتقلت جدتى أم موريس من بيتنا فى القاهرة إلى منزل خالى فى المنصورة لتساعده فى رعاية الطفلين، كم كانت تسعد مثلنا بأيام الصيف التى نقضيها معها رغم ما نسببه لها من إرهاق!
أجمل أيامنا كانت عندما تجمعنا الأعياد، نصمم أحمد وهانى وأنا على أن نذهب معهم إلى الكنيسة لنحتفل، وعندما يعلو صوت أبونا صائحا: «المسيح قام».. نهلل مع زغاريد النساء ونعلن دخول يوم العيد، فنجرى عائدين إلى بيت خالى لنأكل فتة ولحما أعدته جدتى بعد الصيام الكبير.
فى أيام الصيام كان خالى يرفض أن نشاركهم، يقول صيامنا طويل وكفاية عليكم رمضان، فيحضر لنا لحما وبيضا وجبنا أبيض جميلا لم أتذوق مثله منذ وفاة خالى موريس.
فإذا جمعنا رمضان كان الجميع يتناولون فطورهم فى الصباح وقوفا فى المطبخ حتى لا نراهم، ويؤخر خالى موعد الغداء إلى وقت المغرب لنأكل معا، وتنهض أمى أو جدتى قبل الفجر لتعد لنا ساندوتشات السحور نتناولها فى السرير نصف نيام!
الإسكندرية كانت تجمعنا طوال شهر أغسطس من كل عام، تشترك أمى مع إخوتها فى دفع إيجار الشقة التى عادة ما تكون على البحر فى شاطئ سبورتنج، تقضى أمى معنا فى البداية أسبوعا أو اثنين ثم تعود إلى عملها فى القاهرة، وتتركنا تحت رعاية خالى موريس وخالتى تريز، تزورنا بعد ذلك كل خميس وجمعة حتى نهاية الشهر.
نبدأ يومنا بتناول الإفطار، ثم يصحبنا خالى إلى الشاطئ ينصب الشمسية ويجلس معنا حتى موعد الغداء، يتركنا فى رعاية خالتى ويعود إلى الشقة يعد الساندوتشات لنتناولها على الشاطئ.
سنوات مضت وباعدت بين هؤلاء الأطفال خاصة بعد وفاة خالى موريس، ولكن الأعياد مازالت تجمعنا ولو بمكالمة تليفونية، ولكن السنوات لم تؤثر فى هذا الحب الكبير الذى زرعه فينا خالى الجميل.
لم أضبط خالى مرة واحدة يتحدث عن اختلاف الدين ولا أعلم كيف استطاعت هذه العائلة التعامل مع هذا الوضع باعتباره شيئا عاديا، أعتقد أن مصر كانت مثل هذه العائلة.. زمااان.
كم أفتقدك يا خالى موريس! وكم أفتقدك يا أمى الجميلة الغالية!