لا يعوز الناس الضيّ إلّا في العتمة، فإذا اشتدت حاجتهم للرؤية ينظرون مباشرة صوب القناديل! وبسبب تقاطر سُحب الجهل علي الأفق، وامتلاء الصدور بالريبة، والرؤوس بالهواجس، لما يجري في مصر الآن، أستعين مُجددا بخمسة قناديل كثيرا ما استهديت بها. اثنان منها لهما قصب السبق، وثلاثة ما زلنا نستضئ بهمّتهم!
أسبقهم "يحي حقي" العظيم الذي ألهمنا كيف نتحايل علي الجهل بالعلم في " قنديل أم هاشم"، وعلمنا بكتاباته فضائل عميمة منها التأمل والتواضع، ومثله أبهجنا صوت "محمد قنديل" بأغانيه" فلاّحة بلدنا"، و" عالدوّار" و" سحب رمشه وردّ الباب" وغيرها من روائعه، فطيّب وجداننا بالغزل الشعبي المدهش، وطيَّبَهُ بندي الغيطان، وفرحة الفلاحين بتحولهم من أجراء في وسايا الإقطاع إلي مُلاّك لأرض الإصلاح الزراعي بعد ثورة يوليو!
وثالثهم الصنديد "عبد الحليم قنديل" الذي تحدّي مبارك في عز توحشه بلا تهيُّب، وأطلق أولي ومضات ثورة يناير من "جريدة العربي الناصرية"، في مقالات كانت مثالا للشجاعة وسط خوف عام مُخجل، ووضوح رؤية وسط حلكة مُعتمة، وبلُغة سياسية منحوتة، إلتصق فيها المعني بالمبني، وظاهر الحرف بصميم القصد، فبانَ لنا جلياً حجم دوره النضالي.
ثم الرصين الماكر "حمدي قنديل" ببرنامجه" رئيس التحرير"، الذي بدا وقتها كالأيتام علي موائد اللئام، وسط حالة تخريب نشطة لأُسس الإعلام المصري. فكان شمّة الهواء النظيفة الوحيدة في مستنقع النفاق، وكلمة حق وسط أنقاض تلفزيون "صفوت الشريف"، وأدهشنا بقرائته الموضوعية لواقع فاسد، ومهارته المهنية في تناول أعقد الشئون السياسية بلماحية ومواربة واضحة، وتسلل بدهاء إلي وجدان الناس تحت أعين الرقباء، فخاب ظن من تصوروا أنه جزء من ديكورات ديمقراطيتهم الزائفة ولم يحتملوه إلي النهاية، لأنه هو الذي استخدمهم بيقظة لتوعية الناس، وسبّب لهم آلاما فادحة بكشف "ملاعيبهم" في تضليل الشعب، فأوقفوه وتعقبوه إلي دبي بأذرعهم الطويلة القذرة، ليقصفوا "قلمه الرصاص"، لكنه كان قد أتقن اللُعبة، وظل صامدا دؤوبا لايغيب عن أي همّ عام ويراه جزءا من مسؤليته الشخصية.
وخامسهم "وائل قنديل" في عموده اليومي بجريدة الشروق، الذي تجلي إخلاصه لثورة يناير من لحظاتها الأولي، مستخدما أعذب لغة أدبية في معالجة أكثر القضايا السياسية إلحّاحا والتباسا، وبعكس ما كان متوقعا من تلك الجريدة لارتباط أصحابها التاريخي ب "هانم النظام السابق" ظل صوته وفيا للثورة إلي وقتنا هذا كأنقي ما يكون الوفاء.
استقويت بهؤلاء "الخمسة قناديل" قبل الثورة وبعدها، واستعنت بمددهم علي ظُلمة "عقود مبارك الثلاثة "، بنفقها الممتد الخانق، الذي أوهم أكثرية الشعب لكثرة التواءاته أن ليس ثمة بصيص واحد في نهايته، وأن مآل كل الأشياء إلي انهيار حتمي، فسارع من سارع إلي اهتبال الفرص، واستخدام آليات الفساد والنفاق في كل الاتجاهات، وانقبضت قلوب القِلّة القابضة علي الجمر، وشاعت بينهم الحسرة والخذلان، وبات الانزواء سبيل الضعاف منهم لتفادي المخاطر.
الصلة بين الخمسة عندي هي "اسم القنديل" بتعدد إيحاءاته الإيجابية! وهي عند "حقي" العمق والبساطة، في حياته وقصصه ومقالاته، حيث تعاطي مع مجتمعه بمحبة صافية، وتواصل مع العوام من دون استعلاء، وأنزل قيم الثقافة الرفيعة من عليائها إلي حِجر البسطاء، وقاوم المفاهيم الشعبية الخاطئة المختلطة بأوهام دينية بالحيلة وليس الصدام، كما فعل مع الطبيب اسماعيل بطل "قنديل أم هاشم"، حيث جعله في النهاية يتخلي عن صرامته العلمية، ويتظاهر بقبول الجهل ليقنع البسطاء بتناول الدواء، ليضمن انتصار العلم، وهو ما فعله" حمدي قنديل " في" رئيس التحرير" بصيغة ليست بعيدة، لكن "عسس صفوت " كانوا يمتلكون أنوفا تتهيّج من الروائح الطيبة، وينفرون منها بطبعهم، فكان لابد من استبعاده بعدما عجزوا عن توظيفه أو السيطرة عليه.
وهذا يتفق في نتائجه وإن اختلف المدخل مع هدف " عبدالحليم قنديل" في مقالاته التي استنبتت الأمل في نفوسنا بعد بواره، وناوش فيها مبارك الظالم وحيزبونه القاسية بكلام صريح بلا وجل، نيابة عن سائر مظاليم مصر، وحَرَّضهم ضد مشروع التوريث من دون خوف، في وقت كانت الصحافة أحد معولين استخدمهما زبانية النهب العام في تدمير منظومات القيم، وفي التمهيد بهمّة ولهفة لمجئ جمال مبارك، والامتثال لقسوة سوزان ثابت، التي جهلت قيمة مصر الهائلة، واستخفت بشعبها العظيم، واستهانت بكل التحذيرات، ولم يقف أمام هذا الزحف المخيف سوي قنديل بفتيل واحد شحيح الضوء، لكنه كان مبهرا في عتمة النفق، اسمه "عبد الحليم" لا سند له في الحياة غير حبه لوطنه، وإيمانه بقيمه، وشجاعة ملأت عليه قلبه، وقلم جسور.
وفي عز سطوة " صفوت الشريف" وانهيار" تلفزيون الدولة " قدم لنا " حمدي قنديل" تفسيرات موحية لحقيقة العلاقات بين الأشياء، وبذكاء محسوب بيّن أن النظام السبب الرئيسي في مصائب الناس، في وقت كان " تلفزيون الريادة" يقوم بأقذر دور في تشويه وقلب المفاهيم الصحيحة، بعدما اضطلع منذ افتتاحه 1960 بتربية وجدان العرب عامة، لكن قنديلا واعيا وحيدا حاول منع انهيار السدّ بجسده النحيل، والعجيب أن كلماته لم تذهب أدراج السيل، بل بقيت عالقة في الأذهان، كذُبالة بدت هزيلة وقتها، لكنها هزّت سواد الليل. سطع وميض كلمات "عبد الحليم قنديل" وبات عموده الأسبوعي في العربي مقصدا لطُلاب الحق، وانتقلت عدوي شجاعته إلي آخرين، لا يقلون حماسة عنه، فتجمعوا وكانت "كفاية" التي بدت شعلتها واهنة في البداية، لكنها كانت مختلفة وباهرة، سرعان ما اشتد وهجها وبات حاميا علي وجه النظام، فأطلق سفهاء "أمانة السياسات" ضباعهم النهمة، وأذنابهم في "الصحف المخطوفة من الشعب" علي رموز الحركة الوطنية الوليدة، لكنهم عجزوا عن إطفاء الجُذوة، فاستشرت الحماسة الوطنية، واتخذت صيغا أخري مثل 6 إبريل، وبالرغم من ضراوة الملاحقات الأمنية في شوارع القاهرة المزدحمة، توسّع نطاق مظاهرات السلالم مكانيا ونوعيا، فوصلت الإضرابات إلي عمال الغزل في المحلة.
وكانت بدورها مَظْلَمة كبري منسية، فارتجت أركان النظام، واستيقظ ضمير مصر الجمعي وتمطي بعمق ليستعيد حيويته، وانتشرت الوقفات الاحتجاجية لموظفي وعمال أغلب المؤسسات والشركات، وتعالت أصوات المناكيد من سائر حنايا الوطن، حتي تحولت لطنين هائل في أذن مبارك العنيد الظالم وجهاز أمنه الوحشي، فعجزت السلطة سائبة المفاصل بفعل الفساد عن تكميم الأفواه، أو إيقاف المدّ العظيم الذي اعتلي ذُراه في الخامس والعشرين من يناير 2011، يوم الفصل العظيم.
ولمّا كان إطلاق الوميض الأول من مهام القناديل، وإشاعة الضوء في محيطها، فقد كنا محظوظين بقناديل باهرة، جدّدت المخاطر دأبها، فكما ضمنت كتابات "يحي حقي" خلود أفكاره بحيويتها وعذوبتها، سيبقي صوت "محمد قنديل" صدَّاحا يستعصي علي ذائقتنا إهماله، ولم يتراجع "عبد الحليم قنديل" حين خطفه ضباع النظام الساقط لترويعه، وجردوه من ملابسه في الصحراء، فازداد إصرارا وشراسة ضد القهر السياسي والفساد، وذاع صيته أكثر، وعلا صوته، وباتت لغته أبلغ وأنصع مثل آراءه، ولا أنسي أبدا الحماس الذي هزّني وهو يلقي كلمته في نقابة الصحفيين عقب نجاته من عملية الخطف، ومن يومها باتت صراحته مصدر رعب لخصومه، ومحط إعجاب حُسّاده.
ولا أراني مبالغا إذا قلت أننا كنا بحاجة لمثل كتابة "وائل قنديل" منذ فقدنا " أحمد بهاء الدين" الذي كان يضع سنّ قلمه علي نبض الواقع ويخط آلامه بدُربة وفهم واف مهما كانت صادمة لسدَنَة النظام، إلي أن منعوه من الكتابة لأن ضمائرهم الفاسدة لم تكن تحتمل صدقه، وأتمني أن يكون حظ " وائل " أوفر منه لأن من يترصدون الأقلام الآن من ذوي الضمائر المهترئة أحاطوا بنا مجددا، وهُم أسوأ وأقسي، لكن شجاعته في مواجهة "العسكر والفلول وانتهازية اللِحي" منحته ثقة أهل الثورة، وإعجاب الرأي العام عن جدارة!
وسط المخاوف المحيقة بنا. الآن وهنا، والظلامية الزاحفة بلهفة وطمع، توجبت علينا تحية القناديل الخمسة، شطرها لروحي الراحلين وإبداعهما الذي مازال يمنحنا المتعة والسعادة والوعي، وسيبقي إلي مدي غير منظور، والشطر الثاني حُبّاً وإكبارا لدور الثلاثة الأحياء مدّ الله في أعمارهم، ليظلوا كما هم مصدرا للضوء والأمل في حياتنا التي ظنناها ستمتلأ عدلا وكرامة، لكننا فوجئنا بالأفق يعتم من جديد بحلكة مُقبضة لا يبددها إلا دأب وهمّة القناديل!