حرصت مثل الملايين علي أن أتابع حوار «د. محمد البرادعي» مع «مني الشاذلي» في «العاشرة مساء»، كنت أريد أن أعرف عن قرب هذا الرجل الذي تجمعت حوله آمال المصريين بالخلاص من حكم يري أن بقاءه حتي آخر نبضة هو القدر ولا يمكن الهروب من هذا القدر سوي باللجوء لقدر آخر هو التوريث؟! أهم ما استوقفني في البرنامج أن الرجل ظل حتي اللحظة الأخيرة مدافعاً عن حقه في التقدم لرئاسة الجمهورية ليس من أجل المنصب ولكن دفاعاً عن العدالة السياسية التي تقتضي ألا يحرم من هذا الحق حتي لو كانت الوسيلة هي الدعوة لانقلاب في الدستور الذي يري فيه عواراً ولا يليق بمصر أن تفصل مواد دستورية تمنح فقط شرعية للتمديد أو للتوريث.. عندما ألقت «مني الشاذلي» باسم الرئيس «حسني مبارك» كمرشح قادم محتمل وكما تعودنا من كل مواطن يتردد اسمه في الترشيح للرئاسة حيث يصبح التراجع عن الترشيح هو الإجابة، فلا مفر من تقديس اسم الرئيس إلا أن «البرادعي» لم يتراجع في موقفه مثلما فعل «عمرو موسي» الذي قال إن ترشيحه للرئاسة في حالة واحدة إذا لم يتقدم الرئيس «حسني مبارك» للانتخابات لفترة سادسة.. «د. البرادعي» ليس لديه هذا الحرج في تعامله مع الرئيس الذي من الممكن أن تلمحه في تلك العبارات التي رددها مباشرة «د. مصطفي الفقي» في تعقيبه علي إمكانية أن يرشح «عمرو موسي» نفسه مؤكداً أن العين ما تعلاش ع الحاجب علي اعتبار أن «عمرو موسي» هو العين والرئيس هو بالطبع الحاجب.. «د. البرادعي» ليس لديه عيون أو حواجب أو خواطر يعمل لها ألف حساب، فهو لديه أرقام ووثائق يرتكن إليها في الحوار وهي لا يمكن الرد عليها إلا بأوراق أخري من الدولة، ولا يوجد لدي النظام أوراق يستطيع من خلالها الدفاع عن نفسه، الرجل يحدد نسبة الفقراء في مصر ب 43% وهم مقياس عالمي لمن لا يتعدي دخلهم الدولار في اليوم والأمية 35%، ولا أتصور أن هناك وثائق تدحض ذلك، ولهذا أتوقع هجوماً حاداً ضد الشخص فلن يتشكك أحد في الرقم ولكنهم سيفعلونها مع الرجل!! «د. البرادعي» يدرك أيضاً أن هناك نظرة ارتبطت به من خلال أمل يتوق من خلاله المصريون للعدالة وأنه الوحيد الذي صرح بأنه من الممكن أن يتقدم للرئاسة بينما «أحمد زويل» آثر السلامة، ولهذا لم يعد يتحدث في الشأن العام الذي يشغل المصريين ويجب أن نلاحظ أن حواره التليفزيوني السابق مع «مني الشاذلي» و«محمود سعد» في «العاشرة مساءً» كان أيضاً متفقًا علي الأسئلة ألا تتطرق للشأن العام في البلد، بينما «د. البرادعي» لم يضع هذا الشرط بل لعله كان لديه شرط أن يتطرق إلي أحوال مصر والمصريين.. «البرادعي» يعلم أنه يدخل عش الدبابير وأن القوة النائمة التي أشار إليها من قبل «د. علاء الأسواني» في مقالة له في «الشروق» وهم الكتاب المحسوبون علي المعارضة لكنهم يمارسون لعبة متفقًا عليها مع نظام الحكم، وهؤلاء القوة النائمة سوف يبدأون في الهجوم عليه من منابر ليبرالية حتي يبدو الأمر وكأنه لا يتعلق بدولة تضرب في مرشح من خلال منصات تقليدية للهجوم في الصحافة القومية والتليفزيون الرسمي.. هناك معارضة مدسوسة تلعب هذا الدور بذكاء وعلي طريقة شهد شاهد من أهلها.. ورغم ذلك فإن هذا ينبغي أن يتوقعه «د. البرادعي» في ظل مجتمع ظل تحت حكم قاس طوال أكثر من نصف قرن يعلم أن المثقفين جزء من اللعبة يلاعبهم النظام في كثير من الأحيان بالعصا والجزرة، يرهبهم بالعصا ويسيل لعابهم أحياناً طمعاً في الجزرة.. ولهذا ينبغي ألا ينظر إلي الموقف بأنه معارضة ضد الحكومة، ولكنْ بشر هنا وهناك تراهم علي الجانبين ينبغي ألا ينزعج «د. البرادعي» مع من يختلف معه من موقع عقلاني وليس كلهم بالتأكيد موالين للدولة أو أصواتاً لها ولكنه مكروه من الحكومة والنظام بقدر ما أنه كشف ضعف المعارضة الرسمية المستأنسة والمهادنة في مصر، ولهذا فإنه أيضاً مكروه من هذه الأحزاب التي أثبت استقبال الجماهير للبرادعي في مطار القاهرة علي أنهم لم يشعروا من قبل بجدوي كل هؤلاء المعارضين من رؤساء الأحزاب الكرتونية.. كان أهم ما رأيته في حلقة «د. البرادعي» اعتزازاً بالنفس فهو شبعان شهرة ووصل إلي أعلي المناصب العالمية مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية وأيضاً لا يريد مالاً لديه ما يكفيه منه، ومن الواضح أنه لا يطمع في الاستحواذ علي شيء خاص.. من الملامح التي كشف عنها أيضاً البرنامج أن «د. البرادعي» يستطيع بهدوء أن يرد العدوان ولا يتجاوز في كلماته، لكنه يرد الصاع صاعين بأسلوب حضاري.. هو شديد الامتنان لكل من رحبوا به رئيساً قادماً لمصر.. إنه مقاتل شرس وليس كما حاولوا تصدير صورة ذهنية للإعلام توضح أن الرجل ضعيف وسوف يفضل بعد قليل الانسحاب، إنه أيضاً لديه نظرة عالمية وليست فقط مصرية، ولهذا يؤازر كل المعذبين في الأرض في مصر أو العالم كله!! رجل لا يحب أن تحيطه حراسة خاصة يتعامل مباشرة مع ا لناس، البعض يحاول أن يجد ثغرة في شخصيته فهو يخشي لقاء الجماهير ويدللون علي ذلك بأنه لم يغادر عربته ليستقبل الناس الذين انتظروه في المطار، من يري العربة في التليفزيون وكيف تزاحم عليها الناس يتأكد أنه لم يكن من الممكن فتحها فإن من سيلحق بهم الأذي هم الناس قبل «البرادعي».. إنهم يعتبرونه رئيساً افتراضياً علي اعتبار أن التأييد جاء له عبر النت من آلاف المصريين الشباب الذين يتعاملون مع الفيس بوك، وهذا لا يمكن أن يحسب أبداً علي الرجل، فهؤلاء الشباب لديهم وسيلة للتعبير عن آرائهم وهو النت لو جاءت الرسائل السماوية في عصر الكمبيوتر فإنها ولا شك ستصبح الوسيلة الأولي في توصيل رسائل السماء.. العالم الافتراضي هو نفسه العالم الواقعي هؤلاء ليسوا حالمين ولكنهم يتعاملون بحرية مع مستجدات العالم التي حققت لآرائهم قدرًا من الحرية والمباشرة والعلانية، ثم الاحتكاك المباشر مع الآخرين.. يقولون إنه قد استقبله فقط بضعة مئات بينما ذهب الآلاف إلي «حسن شحاتة» وفريق الكرة ونسي هؤلاء أن الرئيسي «حسني مبارك» وابنيه كانوا علي رأس مستقبلي فريق الكرة، هذه المرة نحن نتحدث عن رجل جاء لبلده يحمل أفكاراً بلا ترحيب رسمي ولو تصورنا حتي أن مستقبليه كانوا يعدون بالعشرات فإن هذه هي البداية فقط، ولكنها تؤكد أن الآلاف والملايين من المؤكد قادمون.. لقد شاهدت بنفسي كيف تدافع الناس للترحيب بالبرادعي كنت بالصدفة في المطار في توقيت عودتي من رحلة قصيرة إلي أبو ظبي وتصادف توافق موعد هبوط الطائرتين.. دائماً شعب لم يمارس حقوقه السياسية مشغول بمعركته مع رغيف العيش وأنبوبة البوتاجاز خرج ناس عاديون لأول مرة يعبرون عن آرائهم يبايعون إنسانًا لا يملك شيئاً لا سلطة ولا مال وليس لديه رصيد سابق في الشارع، ولكن مجرد أمل للتغيير، ولهذا فإن من لم يخرج لاستقباله لا يعني رضاه عن الوضع القائم ولكنه لم يتعرف علي الرجل بعد.. ومن الملامح التي كشف عنها أيضاً البرنامج أن د. البرادعي يتمتع بخفة الدم ولديه قدرة علي السخرية المستترة، ولهذا عندما قالت له «مني الشاذلي» إنها من الممكن ألا تمنحه صوتها في الانتخابات الرئاسية المقبلة لكنها سوف تدافع عن حقه في الترشيح، أجابها قائلاً أنه هو نفسه ربما لا يمنح صوته في الانتخابات للبرادعي، وعندما قالت له عن شائعة سقوطه في المرحلة الابتدائية كما أشارت بعض الصحف القومية قال لها لقد رسبت في أولي حضانة!! هذا الرجل جدير بمصر وإذا لم ينتخب رئيساً فإنه ولا شك سيظل يشكل نقطة فارقة في حياة مصر السياسية سيناضل للتغيير الدستوري وسيجد من يسمعه ويردد معه وليس وراءه.. التغيير قادم لا محالة من خلال رؤية هذا الرجل، فهو ليس مخلصاً ولكنه ولا شك سوف يضيء الطريق.. طريق مصر لكي تحصل علي مكانتها التي تستحقها.. الديمقراطية = رغيف العيش؛ لأنه قرار سياسي أيضاً، هذه هي الرسالة التي يحملها «د.البرادعي» وأظن أن الرسالة وصلت لمن يريد وضلت طريقها لمن لا يريد!!