قيل قديما إن السياسة لا أخلاق لها، ذلك أن المصالح هي من يحدد اتجاهات السياسية الدولية، أما القيم الإنسانية العليا والمثل الأخلاقية السامية فلا محل لها في العالم المعاصر، وقد ينطبق على ذلك المعاهدات والاتفاقيات الدولية أيضا، وهناك الكثير من الأمثلة في العلاقات الدولية مرتبطة بالظروف والمصالح، ففي أفغانستان مثلا دعمت الولايات المتحدةالمجاهدين الأفغان لطرد القوات السوفييتية ثم تحولت العلاقة مع الأفغان نحو المواجهة عندما تغيرت المصالح، وفي الوطن العربي اقرب مثال على اختلاف المصالح فالكثير من الأنظمة العربية ارتبطت مع الغرب بعلاقات متميزة ولكن بمجرد هبوب رياح التغيير وقيام الثورات العربية هبت تلك القوى الدولية لدعم هذه الثورات عندما وجدت أن مصالحها الاستراتيجية تقتضي دعمها، حيث إن الاستراتيجية الغربية في التعامل مع (الثورات)العربية تنطلق من خلال المصالح شعارها الهيمنة وتكريس التبعية وما خفي كان أعظم؟! وبذلك استمر الإسقاط الغربي على الثورات العربية بشتى أشكاله السياسية والعسكرية والاقتصادية وذلك بهدف استثمار أقصى ما يمكن من مصالح استراتيجية في المستقبل، وقد ساهمت القوى الغربية في إسقاط بعض الأنظمة العربية بدعوى التماشي مع طموحات الشعوب ولكن في حقيقتها هي أبعد ما تكون عن ذلك! فالهدف هو تكريس واقع الهيمنة وكبح جماح الشعوب العربية في تحقيق انطلاقة نحو المستقبل، ولذلك فقد سخرت الجهود الأطلسية وبتمويل ومشاركة عربية في دعم ثورات الربيع العربي كما يطلق عليها الغرب! وهنا يبرز سؤال مهم يتعلق بمدى النجاح الذي قد تحققه تلك القوى الخارجية في تحقيق مصالحها مستقبلا في ظل صعود تيارات إسلامية على المشهد العربي؟! وهل هذه التصاعد الإسلامي مخطط له أو مقصود في السياسة الغربية؟ ولماذا؟ وهلالأنظمة المتمخضة عن تلك الثورات سوف تحقق تلك المعادلة الغربية؟؟ بلا شك أن الأمة العربية قد تخلصت من أعتى نظام في المنطقة وهو النظام المصري البائد الذي كان يكبل الأمة العربية عن بكرة أبيها، وقد حقق التوانسة أيضا نصرا على نظام عميل آخر، ولن أتحدث عن نظام القذافي فاختلافي على سقوطه أنه كان بأياد خارجية وهذا ملف آخر لا يمكن القبول به مطلقا في ظل قناعات راسخة وثابتة أن الولادة القيصرية في غرفة العمليات الغربية لن تكون خيرا للأوطان والشعوب العربية! ولن نقبل بأي شكل من الأشكال أي تدخل خارجي في أي بلد عربي وهذا لسان الكثير من أبناء الأمة العربية الغيورين على أوطانهم والمدركين لخطورة المرحلة طالما كان غرابالبين ينعق منذرًا بشر آخر أشد وأخطر وطالما أصبحت رياح التغيير يبشر بها جنكيز خان وهولاكو في منطقتنا العربية، بل أصبحت أداة للتغيير في يد الغرب لمناهضة كل من لا يدور في الفلك الغربي والتاريخ يؤكد ذلك وكذلك استقراء المستقبل السياسي للمنطقة والتداعي الخارجي يؤكده ايضا، وهذه ليست نظرة تشاؤمية نحو الثورات العربية بل قد أسميها الصحوة العربية الإسلامية، ولكن صحوتنا ينبغي أن تكون باتقاء ما قد يشوبها من شوائب وحظر تدخلات القوى الدولية المتآمرة من الدخول على خط الثورة العربية فدخولها لا ينبئ بخير لهذه الثورات مهما بررت مواقفها. وعودا على بدء فربما قد تكون الدوائر السياسية الغربية ومراكز الدراسات الاستراتيجية ودوائر صناعة القرار في الحلف الأطلسي، قد نظرت من قبل لهذه الحالة العربية السائدة اليوم ووضعت لها العديد من الاحتمالات، على أساس دعم السيناريو المتفق مع مصالحها الاستراتيجية في المنطقة، ومما لا شك فيه أنها لم تغفل احتمالية صعود جماعات إسلامية على سدة السلطة تتمخض من هذه الثورات العربية، والسؤال المثير الذي يطرح نفسه متى كانت هذه الجماعات الإسلامية مرضيا عنها في الغرب وهي التي كانت حتى وقت قريب تصنف ضمن الجماعات المحظورة والجماعات الإرهابية؟ فهل اختلفت الأيديولوجيات لديها أم أن تلك الأيديولوجيات القديمة ربما تكون مطلوبة الآن لتحقيق مآرب غربية خاصة؟! بلا شك أن القوى الخارجية تدرك جيدا تلك المعطيات على الساحة وهي من يدفع نحو تحقيق ذلك بهدف خلق مناخ تصادمي بين تلك القوى العربية الإسلامية الصاعدة والقوى التقليدية المتمثلة في إيران الإسلامية على أساس مذهبي يحاول الغرب استثماره في المنطقة منذ مدة طويلة، لكن لم يتحقق شيء من ذلك في ظل وجود أنظمة علمانية سابقة موالية للغرب؟ لكن اليوم ربما اختلف الوضع مع إدراك الغرب حساسية العلاقة بين السنة والشيعة في المنطقة العربية والإسلامية وهي للأسف الشديد نظرة قاصرة ومقيتة يتبناها المغفلون من أبناء الأمة، ولن تجلب الخير ولكن على لسان الغرب قد أينعت وحان قطافها وضرب التيارات الإسلامية وخلق مواجهة بين المسلمين هو أحد أهداف الصهيونية العالمية وليس ذلك بخافٍ على أحد. الدخول التركي الطموح على خط (الثورات) العربية بشكل واسع النطاق له ما له وعليه ما عليه، فتركيا العدالة والتنمية ربما تحقق عددا من المشتركات في المعادلة السابقة من ناحية النموذج الإسلامي الحاكم وبالتالي خلق حالة تواؤم تركي عربي إسلامي يتمنى الغرب تسخيره في ذات المناخ التصادمي، وخصوصا أن الأستانة كانت في يوم من الأيام الراعية للشعوب العربية والمتحكمة في المنطقة العربية، ولو دققنا القراءة لوجدنا أن انقرة وجدت الباب موصدا أمامها باتجاه أوروبا فكان عليها البحث عن بابٍ آخر ومنطقة أخرى تتحدث باسمها والمنطقة العربية ليست غريبة عليها فبردة الخليفة ما زالت معلقة لم يعتريها القدم، ولكن بطبيعة الحال هي تعلم أن التاريخ لا يعود للوراء إلا أنه ربما يتجدد ويتمخض منه نموذج آخر تتبنى الأستانة لواءه وتكون الناطقة باسمه والبوابة الحصينة عليه، والطموحات مشروعة في عالم السياسة ولكن!! هناك سيناريو آخر لا يقل خطورة أيضا، وهو خلق حالة من التنافس والتنازع الداخلي على السلطة بين مختلف الفئات السياسية في البلدان العربية وترك الساحة في حالة فوضى عارمة يكثر فيه الصدام والمواجهة وهو من الأهداف القديمة الحديثة التي تعمل عليها الصهيونية العالمية وحلفاؤها في المنطقة، وهذا من السيناريوهات المهمة التي يجب التنبه إليها في جميع أقطار الوطن العربي التي لم تبلغ النضج الثوري بعد. إن الأمة العربية قادمة نحو مرحلة تحولات تاريخية فاصلة في تاريخها... هي مرحلة تقاطعات مع السياسة الغربية الرامية إلى تحقيق مصالحها في المنطقة، لذا ينبغي على الأمة العربية أن تكون أكثر حنكة في قراءة مستقبلها وتوخي الحذر من الأخطار الآنية والمستقبلية التي تحوم حولها، وعليها أن توجه تصديها للمحاولات الخارجية المغرضة وللاستهداف الخارجي المعادي، بدلا من أن تغرق نفسها في مواجهات طاحنة فيما بينها لن تجني منها سوى خيبة الأمل والندم والخسارة الدينية والدنيوية ودستورنا القرآن الكريم فيه ما يغني عن كل الدساتير الوضعية، ولكن أملنا كبير في هذه الأمة وأملنا كبير في المولى عز وجل أن هذا الحراك الشعبي العربي سوف يوجه لاحقا إلى التخلص من الاستعمار والنفوذ الخارجي بكافة أشكاله في المنطقة العربية بعون الله.