رئيس الوزراء يهنيء السيسي بمناسبة الاحتفال بعيد العمال    الدولار يصعد 10 قروش في نهاية تعاملات اليوم    رئيس جهاز الشروق يقود حملة مكبرة ويحرر 12 محضر إشغالات    وزير الدفاع الأمريكي: نعارض أي عملية عسكرية إسرائيلية برفح الفلسطينية دون خطة تؤمن سلامة المدنيين    إعلام عبري: حزب الله هاجم بالصواريخ بلدة بشمال إسرائيل    روديجر يحذر مبابي من نهائي دوري أبطال أوروبا    ستبقى بالدرجة الثانية.. أندية تاريخية لن تشاهدها الموسم المقبل في الدوريات الخمسة الكبرى    مدرب بلجيكا: كورتوا سيغيب عن يورو 2024.. ونركز على اللاعبين الذين يتمتعون بحالة جيدة    حالة وحيدة تقرب محمد صلاح من الدوري السعودي    14 درجة مئوية.. الأرصاد تحذر من انخفاض الحرارة ليلًا (فيديو)    مصرع زوجين وإصابة طفليهما في حادث انقلاب سيارة بطريق سفاجا - قنا    «التعليم» تحدد موعد امتحانات نهاية العام للطلاب المصريين في الخارج 2024    3 ألحان ل حميد الشاعري ضمن أفضل 50 أغنية عربية في القرن ال 21    الخميس..عرض الفيلم الوثائقي الجديد «في صحبة نجيب» بمعرض أبو ظبي للكتاب    فيلم المتنافسون يزيح حرب أهلية من صدارة إيرادات السينما العالمية    بالأبيض.. لينا الطهطاوى رفقة هنا الزاهد وميرهان في ليلة الحنة    إحالة فريق تنظيم الأسرة و13 من العاملين بالوحدة الصحية بالوسطاني في دمياط للتحقيق    هيئة سلامة الغذاء تقدم نصائح لشراء الأسماك المملحة.. والطرق الآمنة لتناولها في شم النسيم    بالفيديو.. خالد الجندي: هناك عرض يومي لأعمال الناس على الله    مفاجأة بأقوال عمال مصنع الفوم المحترق في مدينة بدر.. تفاصيل    بالفيديو.. خالد الجندي: القرآن الكريم لا تنتهي عجائبه ولا أنواره الساطعات على القلب    النائب العام يقرر إضافة اختصاص حماية المسنين لمكتب حماية الطفل وذوي الإعاقة    دعاء ياسين: أحمد السقا ممثل محترف وطموحاتي في التمثيل لا حدود لها    طرد السفير الألماني من جامعة بيرزيت في الضفة الغربية    90 محاميا أمريكيا يطالبون بوقف تصدير الأسلحة إلى إسرائيل    غرق بمياه ترعة.. العثور على جثة شخص في الصف    كتائب القسام تفجر جرافة إسرائيلية في بيت حانون ب شمال غزة    جامعة طنطا تُناقش أعداد الطلاب المقبولين بالكليات النظرية    موعد إجازة عيد العمال وشم النسيم ل القطاع الخاص 2024    الآن داخل المملكة العربية السعودية.. سيارة شانجان (الأسعار والأنواع والمميزات)    وفد سياحي ألماني يزور منطقة آثار بني حسن بالمنيا    "بتكلفة بسيطة".. أماكن رائعة للاحتفال بشم النسيم 2024 مع العائلة    زاهي حواس يوضح سبب تجاهل الفراعنة لوجود الأنبياء في مصر.. شاهد    كرة سلة – قمة الأهلي والزمالك.. إعلان مواعيد نصف نهائي دوري السوبر    موقف طارق حامد من المشاركة مع ضمك أمام الأهلي    هيئة الرقابة النووية والإشعاعية تجتاز المراجعة السنوية الخارجية لشهادة الايزو 9001    القوات المسلحة تحتفل بتخريج الدفعة 165 من كلية الضباط الاحتياط    رئيس غرفة مقدمي الرعاية الصحية: القطاع الخاص لعب دورا فعالا في أزمة كورونا    غدًا.. «بيت الزكاة والصدقات» يبدأ صرف الإعانة الشهرية لشهر مايو    «التنمية المحلية»: فتح باب التصالح في مخالفات البناء الثلاثاء المقبل    رموه من سطح بناية..الجيش الإسرائيلي يقتل شابا فلسطينيا في الخليل    آثار جُرم يندى له الجبين.. أبو الغيط يزور أطفال غزة الجرحى بمستشفيات قطر (تفاصيل)    "بحبها مش عايزة ترجعلي".. رجل يطعن زوجته أمام طفلتهما    كراسي وأحذية وسلاسل بشرية.. طرق غير تقليدية لدعم فلسطين حول العالم    "دمرها ومش عاجبه".. حسين لبيب يوجه رسالة نارية لمجلس مرتضى منصور    كيف تجني أرباحًا من البيع على المكشوف في البورصة؟    19 منظمة حقوقية تطالب بالإفراج عن الحقوقية هدى عبد المنعم    وزير الأوقاف يعلن إطلاق مسابقة للواعظات للعمل بإذاعة القرآن الكريم خلال أيام    الصحة: الانتهاء من مراجعة المناهج الخاصة بمدارس التمريض بعد تطويرها    استشاري طب وقائي: الصحة العالمية تشيد بإنجازات مصر في اللقاحات    إلغاء رحلات البالون الطائر بالأقصر لسوء الأحوال الجوية    مفتي الجمهورية مُهنِّئًا العمال بعيدهم: بجهودكم وسواعدكم نَبنِي بلادنا ونحقق التنمية والتقدم    وزير التموين يعلن تفاصيل طرح فرص استثمارية جديدة في التجارة الداخلية    التأخيرات المتوقعة اليوم فى حركة قطارات السكة الحديد    اليوم.. محاكمة 7 متهمين باستعراض القوة والعنف بمنشأة القناطر    هل ذهب الأم المتوفاة من حق بناتها فقط؟ الإفتاء تجيب    نجم الزمالك السابق: جوميز مدرب سيء.. وتبديلاته خاطئة    برج القوس.. حظك اليوم الثلاثاء 30 أبريل: يوم رائع    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السياسة الأمريكية .. ومشروع الإصلاح في العالم الإسلامي
نشر في المصريون يوم 28 - 11 - 2005

منذ الحرب العالمية الثانية - التي ضمنت الولايات المتحدة بعدها الحصول على منابع الثروة الحيوية عبر توظيف علاقات السوق- كان الهدف الأساسي للسياسة الأمريكية الخارجية هو كيفية ضمان رفاه الشعب الأمريكي في المقام الأول ، وذلك بعد أن ساهمت الولايات المتحدة في تقويض النظام النازي الذي سيطر على أوروبا ، وقامت بدورها من أجل إعادة بعث أوروبا الغربية لضمان استقلالها و أمنها أمام الزحف الأحمر. لقد لاحظنا بأن الدعم الأمريكي فيما يسمى بمشروع مارشال كان مشروطا بتوحد أوروبا الغربية وتنسيق الجهود فيما بينها لتحديد أهداف الإقلاع الاقتصادي ، وتجاوز مشكلات التنمية مع الاحتفاظ بخصوصيات الشعوب وهويتها. وقد أعقبت ذلك فترة من الاستقرار السياسي ، وتحرك عجلة الاقتصاد خاصة في أوروبا الغربية واليابان ، رغم مضاعفات ما يسمى بالحرب الباردة، وهو نفس الأثر الذي تركته السياسة الأمريكية في الكتلة الشرقية بعد نهاية الحرب الباردة و إعلان ميلاد النظام العالمي الجديد. بينما نلاحظ أن بلادنا الواقعة في الحزام الأخضر بتعبير مالك بن نبي رحمه الله، أي بلاد العالم الإسلامي ، قد أُهملت ولم تستفد من هذه الجهود العالمية لتحسين أوضاع الشعوب ، كما حدث في أوروبا الشرقية أو أوروبا الغربية ، أو في جنوب شرق آسيا. قد يبدو من غير الواضح التناقض الناجم عن إبداء الرغبة في تعميم قيم الديمقراطية وحرية التعبير واحترام اختيار الشعوب كما تعبر عن ذلك أدبيات السياسة الخارجية الأمريكية خصوصا والغربية عموما ، بينما نجدها في نفس الوقت تغض الطرف عن السياسيات القمعية المنتهجة في أغلب الأنظمة الموجودة في منطقة الحزام الأخضر. وبقيت مطالب شعوبنا في تحرير الفضاء السياسي وتوسيع مجال الحريات العامة خاصة حرية التجمع وحرية التعبير والنقد ، لا تحظى بأي تجاوب لدى الساسة الغربيين. يبدو أن هناك سياسة "غض الطرف" وسياسة "التجاهل" والتي قد تقود إلى مآس كبرى كما حدث ويحدث في فلسطين المحتلة ، وكما حدث في البوسنة والهرسك ، وفي أفغانستان وفي العراق وفي الجزائر وفي بوروندي وغيرها من الدول الأخرى. إن الموقف السلبي حيال نداء الشعوب المسلمة ومطالبتها بالتحرر والتغيير السياسي السلمي الحضاري، جعل هذه الشعوب تبدي شكوكها تجاه السياسات الغربية المعلنة ، لأن هذه الازدواجية في التعاطي مع قضايا الشعوب تغذي نظرة المؤامرة ضد الإسلام والمسلمين. واليوم يتم الحديث من جديد عن الإصلاح السياسي في العالم الإسلامي، ولم يعد هذا مطلب القوى السياسية الوطنية والإسلامية فحسب ، بل تحول إلى مطلب عالمي تسعى القوى العظمى لطرحه كألوية في سياساتها الدولية. ورغم أن القوى الديمقراطية الطامحة لتحرير شعوبها من هيمنة الديكتاتورية لا تزال تعاني الأمرين خاصة أن الأنظمة تستفيد من المناخ العالمي الخاص بما يُعرف بالحرب على الإرهاب، وتسوق نفسها على أساس أنها أكبر ضامن لمصالح الغرب في المنطقة، إلا أن الأوساط الصانعة للسياسة الغربية وخاصة سياسة الولايات المتحدة الأمريكية الخارجية ، بدأت تنظر للمسألة بشكل مختلف. حيث هناك محاولة لتصحيح الصورة والنظر للمسألة باعتبارها الأساس لمشكلة الفساد السياسي وغياب الديمقراطية الحقيقية. وعلى أية حال، وبغض النظر عن الدوافع المختلفة التي تختفي وراء دعوى فرض الديمقراطية في العالم الإسلامي و لو بصورة شكلية وسطحية، إلا أن هذه النظرة تدل على حدوث تطور هام جدا في نظرة صانع القرار الدولي للمشكلات العالمية التي تؤثر على التوازن والسلم العالميين. وهذا التطور هو حصيلة عملية تقييم جادة لمرحلة الحرب الباردة هذه ، وأثرها السلبي على العالم الإسلامي، هذا التقييم الذي قامت به العديد من المؤسسات البحثية التي لديها تأثير واضح على صناع القرار الدولي في مختلف المواقع سواء في أروقة الأمم المتحدة أو في كواليس البيت الأبيض وقصر الأليزيه. لقد خلصت هذه المراكز إلى أن دعم النظم الديكتاتورية الغاشمة لم يعزز السلم العالمي ولم يدفع بمسارات السلام إلى نهاياتها المتوقعة ، بل أحدث فوضى عالمية لم تكن متوقعة ،وسمحت بنشر الاضطراب في أصعدة أخرى خاصة مجال التوازن الاقتصادي ، الذي بات يلعب لصالح العمالقة الأسيويين وعلى رأسهم الهند والصين ثم بعد ذلك كوريا و تايوان و تايلاند وماليزيا وسنغافورة .. وأخيرا إمارة دبي التي أصبح نفوذها المالي ودورها في التبادلات الاقتصادية يتعزز يوما بعد يوم. وفي المقابل تعرضت كثير من الشركات العملاقة ذات المنشأ الأوروبي إلى اهتزازات شككت في مدى نجاعتها الاقتصادية بداية من شركات النسيج الأوروبية التي قامت بتسريح أزيد من نصف عمالها ورمتهم في خنادق البطالة، ومرورا بشركات المواد الغذائية المعلبة التي فقدت السيطرة على الأسواق الدولية. في الولايات المتحدة لعبت لجنة الكونجرس في التحقيق في أحداث 11 سبتمبر دورا بارزا في طرح النقاش الجدي وذلك عندما طرحت السؤال: لماذا يوجد هنالك إرهاب؟ ومن ثم البحث عن جذور الظاهرة، وحيث يلعب الاستبداد السياسي دورا بارزا في صناعة الانسداد وغلق منافذ التغيير السلمي وتحويل الطاقة الشبابية المعطلة إلى قنابل بشرية موقوتة يمكنها أن تنفجر في أي حين. ومهما قيل عن الإدارة الأمريكية الحالية، فإنه يبدو أنها المرة الأولى التي بدأ الحديث فيها عن جذور التطرف ليس فقط في الجانب الاجتماعي ولكن أيضا في الجانب السياسي الذي لا يسمح بتوزيع عادل للثورة ، واحترام قرارات الشعوب ، الأمر الذي يؤدي إلى الفساد الاقتصادي وشيوع الرشوة والمحسوبية ، ومن ثم حدوث الاختناق الاجتماعي وبالتالي الانفجار السياسي والأمني. لقد بتنا اليوم وللمرة الأولى نسمع كثيرا من صانعي القرار يتحدثون عن خطورة الاستبداد وخطورة الديمقراطية الشكلية ، باعتبارهما يمثلان تهديدا للسلم و الرفاه العالمي لأنهما يقطعان الأمل من القلوب، ويكرسان السلبية وروح الانتقام. لقد دعت إدارة بوش الثانية إلى تغيير جذري في سياسة الولايات المتحدة الأمريكية تجاه العالم الإسلامي، تلك السياسة التي لم تتغير طيلة الستين سنة الماضية، ولأول مرة لم تعد مواقف الدول من القضايا الخارجية محل اهتمام فقط بل كذلك علاقات الحاكم والمحكوم وسياساتها الداخلية أيضا محل اهتمام شديد. وتحت وقع هذا الضغط الذي يمارسه "الأخ الأكبر" (Big Brother) لبعض الأنظمة في المنطقة نجد تحسنا ملحوظا لملف العمل السياسي وملف حقوق الإنسان في بعض الدول. وهاهي الانتخابات المصرية الأخيرة تدل على أن هذه الأنظمة بدأت تفقد السيطرة . وأما بالنسبة لمختلف القوى السياسية في العالم الإسلامي فعليهم أن يدركوا أن سرعة تحرك الأحداث الدولية والتطورات المختلفة التي يتداخل فيها السياسي بالأمني والاقتصادي بالأيديولوجي، أصبحت كبيرة جدا بالمقارنة مع السنوات الماضية ، ولذلك بات من الواجب على قوى التيار الحضاري أن تكون قادرة على قراءة الأوضاع بشكل صحيح ، وتفهم اتجاهات التاريخ كي تستطيع أن توازن بين خياراتها الإستراتيجية وفعلها اليومي الديناميكي ، وتكون لها قدرة لاستشراف المستقبل ، تسمح لها بتجنب جميع الانزلاقات والمطبات الدولية. وأي غفلة عن هذه السرعة الهائلة التي تحرك المسارات الدولية سيؤدي إلى فقدان السيطرة والموقع في الحدث الدولي بلا شك. وفي ظل هذا التسارع اهتمت العديد من المؤسسات البحثية في العالم الغربي ومنها مؤسسة "راند" الأمريكية بمناقشة قضايا الإصلاح في العالم الإسلامي. والجديد في هذا المشهد الفكري أن هناك اهتماما متزايدا بدور الحركات الوطنية والحركات الإسلامية في قيادة منظومة العمل السياسي في هذه البلاد ، سواء تعلق الأمر بالنفوذ المتصاعد للمسلمين في الهند، أو الدور الفاعل للحزب الإسلامي في تركيا في تحييد الجيش ، والالتفاف على العلمانية الأتاتوركية المتطرفة ، أو تفاعلات المشهد السياسي الجزائري بين المصالحة الوطنية الحقيقية والمصالحة الاستئصالية ، التي تصنف المواطنين إلى درجة أولى ودرجة ثانية، أو مواطنين و "أنديجان"(1) كما كان يفعل الاستعمار الفرنسي. وأحب هنا أن أقف بسرعة عند بعض أهم ملامح الموجة الإصلاحية الجديدة التي تصدر من الغرب ، وأجبرت معظم الدول الديكتاتورية المتسلطة على رقاب الناس في العالم العربي على تغيير سياساتها المحلية حتى تتحايل على المجتمع الدولي. فشل التخويف بالحركة الإسلامية كإستراتيجية استئصالية : نذ البداية كان رهان القوى العلمانية في العالم الإسلامي هو صناعة بُعبُع لتخويف الغرب به: "فإذا طالبتمونا بديمقراطية حقيقية فإن الوريث لنا هو التيار الأصولي والحركات الإسلامية". كان العلمانيون يتصورون أن صناعة هذا البُعبٌع كافية لإبعاد شبح المطالبة بالإصلاح الحقيقي القائم على التعددية الفكرية واحترام إرادة الشعب ، وتوقيف المهازل الانتخابية التي تسيرها عصابات التزوير المفضوح. لقد كانت إستراتيجية التيار التغريبي هي التلويح المستمر بخطر "الغول الأصولي" الذي يريد إعادة الناس إلى القرون الوسطى، من أجل الحفاظ على المكاسب غير الشرعية ونهب المال العام. فمن خلال التلويح بهذا الغول كانت النظم التي تساقطت شرعيتها وفقدت مصداقيتها تريد أن تخلد نفسها في سدة الحكم، وتبرر كل السياسات القمعية الدامية التي راح ضحيتها مئات المواطنين الأبرياء في مصر وسوريا والعراق وتونس والمغرب والجزائر وغيرها. وأصبحت معظم هذه الدول تسير عن طريق الأحكام العرفية وقوانين الطوارئ ومجالس معينة في شبه انتخابات لا ترقى إلى أدنى مقاييس النجاعة القانونية والديمقراطية. لكن الغرب بدأ يتخلص من النظرة النمطية التي كان يسوقها دعاة العلمانية العربية عن الحركات الإسلامية. ونظرة بسيطة للكتب والمنشورات التي طبعت في العالم الغربي حول التيار الإسلامي في السنوات الأخيرة تجعلنا نقف على مادة فكرية وبحثية راقية ، تراوحت بين رسائل الدكتوراه ودراسات بحثية ألقيت في ملتقيات فكرية ، خصصت لبحث مشروعات الحركة الإسلامية وعلاقتها بالغرب وبمفهوم الإصلاح وبالديمقراطية. ومن الواضح في هذه الدراسات أن معظمها بدأ يفرق بين صورة الحركة الإسلامية كما يروجها الكتاب المرتزقة وأئمة العلمانية المتطرفة و الأنظمة الديكتاتورية القمعية ، وصورتها الحقيقية من خلال العودة إلى خطابها ومواثيقها ورصد حركتها في الشارع الشعبي. فالنظم الديكتاتورية والكتاب التغريبيون يسعون لترويج صورة المجموعات الهامشية التي يراد إلحاقها وتصنيفها ضمن نسيج الصحوة الإسلامية. وعادة ما تكون هذه التيارات الهامشية تتبنى أفكارا غاية في البساطة والسذاجة ، والأخطر من ذلك كونها تيارات قابلة للاختراق الأمني ، ومن ثم التوظيف السياسي والإعلامي و المخابراتي متى احتاجت الأنظمة لذلك. وفي نفس الوقت تقوم هذه الأنظمة بتجاهل الصوت الإسلامي العريض المعتدل الوسطي لأنها تعتبره خطرا حقيقيا على وجودها ويهددها باستمرار في مهمة سيطرتها على شؤون الدولة والمجتمع خارج إطار الشرعية. بدأ الباحثون في الغرب يهتمون بالنسيج الإسلامي العريض المعتدل، بل هناك بعض الأصوات لا تخفي رغبتها في إدماج هذه الأصوات المعتدلة في العملية السياسية حتى يتم الفصل بينها وبين قوى الميوعة أو الإرهاب. وفي ظل هذا الحرج والضغط المتزايد على الأنظمة عمدت هذه الأخيرة لبناء واجهات "إسلامية" مزيفة ، واستعمالها كجزء من الديكور الديمقراطي المغشوش. وهو نفس ما قام به الاستعمار عندما حارب بلا هوادة حركة الإصلاح الإسلامي ممثلة في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ، وقام بالترويج لكل أنواع المتدينين المزيفين سواء كانوا من بعض الطرق الصوفية المنحرفة البعيدة عن التصوف الحقيقي ، والتي اعتبرت الاستعمار قضاء وقدرا ومن يحارب الاستعمار فهو يحارب قضاء الله وقدره، أو تلك التي مارست أصناف التضليل الديني وتشويه سمعة ومكانة العلماء. أملنا أن يعود التيار التغريبي لصوابه و أن لا يحاول معاكسة أو عرقلة عجلة التاريخ، فإن عالمنا الإسلامي يمر بمرحلة دقيقة، حيث إن الظروف الدولية و الإقليمية و المحلية تفرز اليوم فرصا تاريخية من أجل إقدام مختلف بلدانه على إصلاحات حقيقية تمكن شعوبنا من إقلاع حضاري. الديكتاتورية وباء يجب أن يحاصر لأول مرة يقف رئيس دولة أمريكي ليقول للعالم بأننا أخطأنا طيلة ستين سنة في دعم النظم الديكتاتورية في
العالم ، سواء نظام ماركوس في الفلبين أو الأنظمة العسكرية القمعية في أمريكا الجنوبية أو غيرها من النظم في العالم العربي وفي أفريقيا وآسيا. هذا الاعتراف لم يأت من فراغ بل هو حصيلة تقييم دقيق لمخاطر تصعيد الضغط على الشعوب ، وحكمها بأنظمة ورقية تستند فقط إلى لغة القمع والقتل والتعذيب ومصادرة حرية التعبير والرأي . إن الاستبداد خطر على النمو الاقتصادي ، وخطر على حركة التبادل الدولي ويؤدي في حالات كثيرة إلى اضطراب أسعار العملات و تذبذب أسعار النفط ، وكلها عوامل تؤثر في استقرار النمو الاقتصادي. إن هذه الحساسية المفرطة تدفع الجميع إلى نبذ كل أشكال الديكتاتورية والاستبداد المحلي والعالمي، وقديما قال ابن خلدون رحمه الله:"الظلم مؤذن بخراب العمران". و هذه القاعدة الاجتماعية التي استخلصها العلامة ابن خلدون هي التي يبدو أن منظري العلاقات الدولية اليوم قد فقهوها جيدا ، و أملنا أن يتحرك السياسيون على ضوئها ، و أن لا يصغوا لتحرشات الدكتاتورية و أكاذيب استخباراتها. لقد شدد العديد من الباحثين و المختصين في السياسة الدولية على أهمية خلق دينامكية جديدة في العالمين العربي والإسلامي ، وذلك بفسح المجال لجميع القوى الوطنية والإسلامية الفاعلة في مجتمعاتها ،حتى تتخلص هذه المجتمعات من بذور العنف وتتجه نحو البناء والتعمير. و للأسف نجد أن هذه الأنظمة تعمل على التمديد في عمرها وذلك بتحويل العنف إلى سلوك ومنهج سياسي تقايض به المجتمع الدولي دون اهتمام بصحة المجتمع المحلي واستقراره ونموه الاقتصادي. حتى إذا خفتت حدة الصراع وتراجعت يشهد المجتمع دون سابق إنذار موجة جديدة من العنف غير المبرر. وفي نفس الوقت نجد إعادة تأهيل العنف حتى يتحول إلى عنف اجتماعي واسع النطاق. وإلا كيف نفسر إلقاء القبض على أكثر من 500 شخص في شهر رمضان الماضي في بلد مثل الجزائر بتهم العنف الاجتماعي المدني. ألا يدل هذا على أن العنف بدأ يتهيكل في أشكال جديدة ؟ ومن يعطيه قوة الحركة ؟ أليست هي الدوافع القائمة على الهروب من الواقع المؤلم المشبع بصور الإحباط والبطالة. لكن السؤال الذي يبقى مطروحا هو كيف ستقوم هذه الأنظمة بتغيير جلدها حتى تتكيف مع موجة الإصلاح التي أصبحت مطلبا دوليا قبل أن تكون مطلبا سياسيا وطنيا ، وضرورة اجتماعية ملحة؟ وإذا أردنا الحديث عن إصلاح حقيقي في مجتمعاتنا الإسلامية لا بد أن نقف عند محطات أرى بأنها هامة جدا، ودونها لا يمكن الحديث عن الإصلاح الحقيقي: الإصلاح السياسي أم الإصلاح الحضاري ؟ من المغالطات الكبرى حصر المشكلة في الإصلاح السياسي فقط. وكأن المشكلة تتعلق بالجانب السياسي ، دون النظر إلى العمق الحضاري للمشكلة الذي يؤثر بشكل كامل على كافة المجالات الاجتماعية والثقافية والسياسية و الاقتصادية. وحيث العامل السياسي على أهميته يتحول إلى الجزء البارز من جبل الجليد فقط. ولذلك رؤيتنا أن تجزئة عملية الإصلاح وتحويلها إلى عنوان جديد لمعركة سياسية يختزل أبعاد التغيير الحقيقية. فالتغيير شامل له بعد حضاري لا ينحصر فقط في المشكلة السياسية. فمجتمعاتنا في حاجة ماسة ليس فقط إلى انتخابات نزيهة وديمقراطية حقيقية ، ولكن إلى ضمان الحريات وحقوق المواطنة لجميع فئات المجتمع دون تمييز، وإلى فعالية في مجال التربية واستقرار اجتماعي وأسري ، واعتزاز بالهوية الثقافية واحترام ثوابت الأمة والمجتمع ، وتعزيز الوحدة الوطنية، وإلى تأسيس دولة القانون القائمة على الحق والعدل لتكون أداة في يد المجتمع تمكنه من إقامة النظام المجتمعي الذي يرضاه ، وإلى تنظيف الخدمة العامة والإدارة من الفساد والرشوة والمحسوبية ، وإلى نمو اقتصادي... فكل هذه المجالات هي جزء من عملية ديناميكية شاملة. وأول خطوات الإصلاح تنطلق من الإنسان من خلال تحقيق العدالة الاجتماعية ، و إعادة ثقته بنفسه ووطنه ومجتمعه و أمته ، وتعزيز فعاليته الاجتماعية وتقوية دوره في حركة التاريخ الاجتماعي، حتى لا يشعر بالدونية و التهميش. من شروط الإصلاح : إن التيار الحضاري، كقوة حية وفعالة يحتاج إلى مزيد من التأمل في فرص التغيير و الإصلاح التي يوفرها الوضع الجيوسياسي العالمي، خاصة أن الخط الأصيل استطاع أن يحافظ على مسافة متوازنة بينه وبين النظم الديكتاتورية ، والممارسات التي تخل بالتزامات الحركة اتجاه المجتمع. وهذا ما يجعل مصداقيته الاجتماعية والتاريخية لا تزال قوية يمكن استثمارها لتقوية قناعة المجتمع بأهمية تحمل المسؤوليات التاريخية. ولا يمكن الحديث عن الإصلاح السياسي فضلا عن الإصلاح بالمفهوم الحضاري الشامل دون السعي المنهجي لضبط الخطوات العملية الممكنة. لأنه لا يعقل أن تستمر كل من الحركات الإسلامية والوطنية في طرح الشعارات دون البرامج العملية الميدانية الواقعية. ولذلك فإنني أحاول أن أساهم في إثارة هذا النقاش الحيوي ، وذلك بطرح العناصر التالية كعوامل تعزز التحرك نحو الإصلاح بمفهومه الشامل. و إلى جانب تنمية روح النقد البنّاء وتعزيز ثقافة العمل والفعالية ، علينا تكثيف الجهود الوطنية من أجل: تعزيز دور المجتمع المدني إنه لمن الخطأ التصور أن التغيير يخضع دائما للعامل الواحد والمؤثر الواحد، بل برهنت التجربة أن هناك عدة عوامل تتضافر فيما بينها لتصنع الوجه الجديد وفجر النهضة. و لذلك لا يمكن القول إن العمل السياسي وحده هو مفتاح التغيير. وهذا ما جعلنا نحن في مدرسة البناء الحضاري الدعوية نقف مبكرا ضد الطرح الذي أراد أن يذوب العمل الإسلامي في العمل السياسي، ويجعل الحزب السياسي بديلا عن الدعوة. فالسياسة ليست هي كل شيء، بل هي جزء لا يتجزأ من عملية أعقد وأكبر هي عملية التغيير الحضاري الشامل. لقد كانت هناك كثير من القوى تجذبها العناوين الكبرى والأضواء البراقة ، ولكنها لا تستطيع أن تفهم سير عجلة التاريخ في الاتجاه الصحيح وتضمن استقرار وسلامة جميع الراكبين. وهذا ما يجعلنا نعترف بأن اهتمام الحركة الإسلامية بالمجتمع المدني عمليا وميدانيا لم يكن بمستوى التحديات المطروحة. ورغم أن حركة البناء الحضاري التزمت جانب التحفظ ولم تشارك كمؤسسة باقي القوى في ركوب موجة تأسيس الأحزاب حيث اكتفت بدعمٍ بالرجال والمشاريع لأول تجربة سياسية للصحوة الإسلامية بالجزائر إلا أنها رغم ذلك لم يُسمح لها بتطوير تجربة مستقلة تهدف إلى تطوير وتعزيز مؤسسات المجتمع المدني، ف "الجمعية الإسلامية للبناء الحضاري" كانت أول الجمعيات الثقافية التي طالها الحظر ظلما وعدوانا غداة 11 يناير 1992. لقد بات من الواضح اليوم أن الدور الفاعل لمؤسسات المجتمع المدني سواء هيئات حقوق الإنسان أو الجمعيات الخيرية أو الثقافية أو جمعيات خدمة الدعوة والمساجد التي تتولى استكمال نقائص الفعل الرسمي وعمل الدولة مهمة جدا وتحتاج إلى عناية خاصة من أبناء الحركة الإسلامية. فهذه المؤسسات تطلق طاقات المجتمع من أجل الإبداع والتطوير وتكون بعيدة عن لغة المزايدات والتراشق الإعلامي ، لأن كل من ينتسب لمثل هذه المؤسسات يكون هدفه هو أداء الواجب أولا وقبل كل شيء قبل النظر لأي حق من حقوقه الشخصية. عزل المتطرفين: المغالين والمائعين إن التطرف في أي اتجاه ليس من خلق أصحاب الرسالات ولذلك كان الإسلام ضد التشدد وضد التميع، الأمر الذي يدفع قوى التغيير الجادة لخط طريق مستقل بين هذين الحدين المتناقضين، حد الغلو وحد الميوعة. ففي الجزائر مثلا، ربما لم تنتبه الحركة الإسلامية عندما جرفتها الأحداث التي أعقبت 5 أكتوبر 1988 إلى خطورة هذا الطابور الخطير الذي ينمو في هوامش الفعل الدعوي الوسطي. فهناك المتسلقون الذي جعلوا الدعوة مطية لمكاسب ومناصب ثم تنكروا لها وأصبحوا يخافون من الانتساب لها. وهناك من يزايد على الدعاة الشرفاء والعلماء الأجلاء ، ويتهمهم بالتقصير في حق الإسلام والدعوة ، ويصبح يتعامل معهم و كأنهم قوى شيطانية. ولذلك فإن السير في الخط الوسطي الإسلامي المتوازن ليس بالأمر الهين كما يتصور البعض. فالدعوة بين مرونة تكسبها التوازن أو مرونة تفقدها هويتها وتذيبها في بحر المتاجرين بمكاسب العمل الإسلامي ، من أجل مصالح شخصية وفئوية. هذا بالنسبة للتطرف المحسوب على الحركة الإسلامية بالجزائر، و أما بالنسبة لباقي بؤر التطرف المحسوبة على التيار التغريبي الاستئصالي ، والتيار المدافع عن حقوق الإخوة الأمازيغ ( البربر ) و ثقافتهم، فربما الحركة الوطنية هي الأخرى تتحمل جزءا كبيرا من المسؤولية بحكم استحواذها منذ فجر الاستقلال على السلطة السياسية في البلاد ، و لو بصفة الواجهة للسلطة الفعلية الغامضة والغير الدستورية ، التي لا تزال تهيمن على مفاصل الحكم في البلاد. فكبت الحريات و القبول بنظام الحزب الواحد وعدم توضيح حقيقة مكانة الجيش و أجهزة الاستخبارات ، و تدخلها غير الدستوري في صنع القرار ورسم سياسات البلاد ، و الإفراط في الدعوة إلى القومية العربية على حساب الإسلام المكون الأساسي للشخصية الجزائرية و العنصر الموحد للبلاد، ، أدى إلى دفع الكثير من أبناء شعبنا إلى التطرف في ميولهم لثقافة المستعمر الفرنسي ، والبعض الآخر إلى نزعات الانفصال الخطيرة التي أصبحت تهدد بالفعل المصالح الإستراتيجية لبلدنا بل و لكامل منطقتنا في شمال إفريقيا. آن الأوان للاعتراف بحق أبناء الصحوة الإسلامية في المشاركة في عملية الإصلاح الحضاري، بما فيه حق السياسيين المنتمين للحركة الإسلامية دون تمييز للمشاركة في الساحة السياسية، إن الإصلاح الحضاري الشامل لا يكون إلا بالخروج من دائرة المشكلات الوهمية التي تعرقل مسيرة المجتمع ، والنظر بعيدا للمشكلات الحقيقية التي تتعلق بموقع الجزائر في المنظومة الدولية ومكانتها بين الأمم. هل نحن مؤهلون كي نساهم في الحضارة الإنسانية المعاصرة ؟ وهل يمكننا أن نشارك في النشاط الاقتصادي العالمي مثل شعوب كوريا واليابان .. واليوم أيضا الهند.. وفي الغد القريب ستبرز فيتنام؟ ذلك هو الرهان الحقيقي! وتلك هي تحديات المستقبل! فهل من متبصر؟! -------------------------------------------------------------------------------- * رئيس البعثة البرلمانية للجبهة الإسلامية للإنقاذ الجزائرية في واشنطن (1) كلمة فرنسية معناها "الأهالي" كانت تطلق على سكان الجزائر الأصليين المصدر : الاسلام اليوم

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.