مثل أي مصري .. أستيقظ عادة في ذاك اليوم من شهر أكتوبر فأكتشف أن هامتي قد إرتفعت بضعة سنتيمترات .. أغسل آثار النوم عن وجهي لأطالع وجها مختلفا في المرآة .. إبتسامة لها معنى تشرق من العينين وتمنح ملامح الوجه إحساسا بالفخر والكرامة .. مثل أي مصري .. أصلي في هذا اليوم وحولي أطياف نورانية .. أرواح الشهداء تنشر عطرا خفيا يتسرب إلى روحي فتزداد إبتسامة الفخر والكرامة .. لا يهم إذا كان وجهي وقلبي يتخذ قبلته إلى المسجد الحرام في مكة .. أو كنت أرسم على صدري علامة الصليب .. فالعطر واحد ، والفخر واحد ، والشهداء الذين صنعوا فخري وكرامتي أحياء في قلبي يرزقون .. غريبة هي رياح أكتوبر وروائحه .. وغريب ما تفعله بالنفس .. فالمعجزة التي صنعها بنو وطني عام 1973 تستحق أن تجد مكانتها في التاريخ .. وتستحق أن تتوج بالحديث الشريف الذي يصف بني وطني بأنهم خير أجناد الأرض .. ولكن صفحات التاريخ لا تتسع لمعجزة النصر الهائل العظيم عام 73 فقط .. ففيها أيضا قبل ست سنوات معجزة الهزيمة الكبرى .. نفس الجيش ونفس الجنود ونفس الشعب الذي حقق أعظم إنتصار .. مُني قبل ست سنوات فقط بأسوأ هزيمة .. فما الذي حدث .. وكيف يستطيع التاريخ أن يفسر الإرتقاء إلى أعلى ذروة للنصر ، والإنهيار إلى أدنى حضيض للهزيمة في سطرين متتاليين . مثل أي مصري .. أستطيع أن أفهم هذا التناقض الكبير بين جيش الهزيمة وجيش النصر .. فجيش الهزيمة عام 1967 كان يمارس أدوارا لا يفهمهما ولا تناسبه .. كان يحكم البلد .. يتدخل المشير في الحكم بصفته الرجل الثاني في سلم الدولة .. وينتشر الضباط واللواءات داخل مؤسسات االحكم ويدلون بدلوهم في كل شئ من الإقتصاد إلى كرة القدم ومن الأمن إلى تحديد إسم المطرب الذي سيغني في حفل أضواء المدينة .. عام 1967 كنا نعيش بشكل مباشر تحت حكم العسكر .. كان الرقيب العسكري يتدخل في أخبار الصحف ومقالات الكتاب .. وكان السجن الحربي يستقبل المعتقلين المدنيين .. وكان رجال المشير يتدخلون في كل كبيرة وصغيرة من شؤون الدولة .. ومن الطبيعي والطبيعي جدا أن ينتهي حكم العسكر إلى هزيمة مدوية نالها خير أجناد الأرض .. (يمكنك أن تبحث بنفسك وتفتش في جوجل وكتب التاريخ عن أي دولة حكمها العسكر خلال القرن العشرين وحققت أي نصر عسكري ) جيش النصر عام 73 كان يتكون من نفس الجنود .. ولكن قياداته لم تكن مشتتة في تنظيم المرور وإعتقال المدنيين وملاحقة الصحفيين وتكميم كتاب الرأي وتحديد أسماء المطربين المسموح لهم بالغناء في الإذاعة .. جيش النصر لم يكن متورطا في العمل السياسي .. لم تكن دباباته تحاصر الميادين ولم تكن بنادقه موجهه إلى صدور بني وطنه .. ولذلك حقق خير أجناد الأرض أغلى إنتصار وأشرف تضحية وأنبل فداء .. وجدنا الفلاح البسيط عبد العاطي يصطاد الدبابات مثل عصافير الحقول ..والجندي (أسد سيناء) سيد زكريا يوقف وحده تقدم كتيبة إسرائيلية كاملة .. وبطل الصاعقة إبراهيم الرفاعي يتحول إلى أسطورة خلف خطوط العدو بحيث يصاب الجندي الإسرائيلي بحالة من الإسهال لمجرد سماع إسمه .. وآلاف الملاحم الشخصية التي سطرها رجال "منهم من قضى نحبه" ومنهم من عاد من الجبهة لينتظر "وما بدلوا تبديلا" في عيد النصر .. وبينما هامتي تزداد إرتفاعا وفخرا بجيش وطني وجنود وطني .. لا يمنعني ذلك من أن أردد الدرس الأكبر الذي علمنا إياه إنتصار أكتوبر : "يسقط يسقط حكم العسكر" .