يحسب للفيلم رغم أى ملاحظات انه لم يتاجر بقضية التحرش ولم يكن مدعياً وهو يطرحها مناقشة قضية التحرش فى فيلم 678 قليلة تلك الأفلام التى تترك أثراً باقياً داخل المشاهد بعد مغادرته قاعة العرض، هناك أفلام مسلية وممتعة للغاية داخل قاعة السينما ولكن أثرها لحظى ويخبو تماماً بعد كلمة النهاية، أما الفيلم الذى يظل منه شىء ينير داخل العقل وينبض فى الوجدان بعد مشاهدته فمن المؤكد انه نجح فى مس عصب ما بالواقع ونقله الى خانة الابداع الفنى، وفيلم 678 من النوعية الأخيرة، قدم فيه مؤلفه ومخرجه "محمد دياب" جرعة مرة من الواقع، تحدث عن قضية شائكة وجارحة برؤية فنية لا تخلو من نبل ووعى، جمع فى فيلمه بين الرصد والكشف وبين التحذير والترهيب من استفحال ظاهرة التحرش الجنسى وتحولها الى وحش لا يمكن السيطرة عليه خاصة مع استشراء ثقافة الصمت عن الحق ودفن الراس فى الرمال. الفيلم من خلال سرد سينمائى ملخص حوًل تلك الحوادث الى واقع انسانى حقيقى مشحون بمشاعر الألم والغضب والاحباط، وقد نجح فى النهاية فى أن يفضح ويجرح ويغوص فى المشكلة يساعده حالة ألق خاص شملت أغلب الممثلين بالاضافة الى اجتهاد فى التعبير بالصورة وبايقاع المونتاج والموسيقى، الفيلم هو التجربة الأولى للمخرج واختياره الجرىء لطرح درامى قوى ومتماسك يبرز قدرة السينما على عكس الواقع برؤية سينمائية لها خصوصيتها. الفيلم يرصد ردود فعل 3 فتيات تعرضن للتحرش فى مواقف مختلفة، هن من طبقات اجتماعية وثقافية مختلفة الأولى زوجة الطبيب صبا "نيللى كريم" وموظفة الشهر العقارى فايزة "بشرى" وممثلة الاستاند اب كوميدى الشابة نيللى "ناهد السباعى"، ردود الفعل اختلفت ربما تبعاً لثقافة ونفسية كل منهم، اختارت زوجة الطبيب وهى من طبقة أرستقراطية تحويل مآساتها الى ندوات نسائية عامة تناقش الظاهرة وطرق مقاومتها، أما الممثلة الشابة وهى من طبقة متوسطة فقد طاردت من تحرش بها وقبضت عليه بمساعدة الجيران، وأصرت على أن تقدم المتحرش الى العدالة فى قضية تناولتها الصحافة علناً، أما أكثر النساء ضعفاً وهشاشة فهى الموظفة المحجبة التى عانت أثار التجربة حتى كرهت ممارسة العلاقة الطبيعية الحميمة مع زوجها، ولجأت لاحقاً الى الانتقام من المتحرشين بطعنهم فى منطقة حساسة من أجسادهم وسط زحام الأوتوبيس، وهو الأمر الذى ينقل مسار الدراما فى الفيلم فى لحظة ما إلى منطقة بوليسية نرى فيها ضابط المباحث "ماجد الكدوانى" المشغول عن زوجته الحامل والمنهمك بالبحث عن الفاعل فى قضية طعن المتحرشين، ويقدم الكدوانى الذى يتألق بصورة ملحوظة فى الأدوار الثانية دوره بخفة ظل وتلقائية محافظاً ببراعة على الشعرة الصغيرة بين الشخصية الساخرة والحازمة لضابط المباحث مضيفاً لدوره لمحات انسانية معبرة. اختار السيناريو أن يتعامل مع القصص من وجهة نظر الضحية، وهى وجهة نظر ضرورية ولكنها تظل تقليدية وأحادية الطرح، وكان أمام الفيلم فرصة تقديم طرح واسع وشامل للقضية خاصة من الزاوية الأصعب وهى الاجابة عن سؤال: لماذا يمارس رجل أو طفل صغير التحرش؟ هو يدين الظاهرة ويكشف ألم ضحاياها لكنه لا يتعمق فى تفسير سلوك المجرم ودور المجتمع فى نمو الظاهرة. اجتهد "محمد دياب" فى تقديم سيناريو وصورة فنية معبرة، واستخدم خيوط السيناريو فى سرد حكايات الشخصيات بشكل دائرى ومتشابك، نراه يركز على مشهد واحد لحادثة التحرش بفايزة ينتهى بوخزها المتحرش بدبوس ونزولها مسرعة من باب الأوتوبيس لتقابلها سيارة ملاكى، ولاحقاً وبعد مشهد غاضب بين صاحب السيارة "أحمد الفيشاوى" وزوجته يصل بسيارته أمام أوتوبيس تنزل منه فايزة مهرولة، ويتكرر نفس المشهد مرة ثالثة فى خلفية حوار بين الممثلة وخطيبها فى البلكونة، ويربط هذا التكنيك الشخصيات والقضية بشكل متضافر، فالظاهرة لا تفرق بين أنثى محجبة أو غير محجبة، فقيرة أو غنية، صنع السيناريو دوامة المشاهد بصورة تؤكد استمرارية المشكلة وتشابك مصير ضحاياها حتى لو كانوا أشخاص غرباء عن بعضهم البعض، وكانت ذروة الفيلم حينما وقفت البطلات الثلاثة فى مشهد مباراة مصر وزامبيا يهتفن مشجعات زامبيا التى فازت بهدف على مصر، فقد حماهم الفوز من حدوث الهرج والتحرش، وتحولت الهزيمة فى نظرهم نوع من التنفيس والانتقام، وعبر المشهد عن الشعور بظلم المجتمع الذى قد ينحرف بالأنثى المقهورة الى حالة تشفى وكره للوطن نفسه، وهذه هى أبلغ رسائل الفيلم واكثرها قسوة. أداء الممثلات "بشرى" و"نيللى كريم" و"ناهد السباعى" كان معبراً للغاية عن رد الفعل النفسى المختلفة للشخصيات، وقد حصلت "بشرى" على مساحة أكبر على الشاشة من زميلتيها فاستطاعت أن تتفوق وتبرز ردود فعل شخصيتها السلبية ببلاغة تعبيراتها بالوجه والنظرات، وكانت شخصية الممثلة الشابة نيللى هى الأكثر جرأة وايجابية وكانت أكثر شخصيات الفيلم الدرامية ايجابية و قدمتها "ناهد السباعى" بأداء جيد ومعبر خاصة مشهدها على المسرح التى تسخر فيه مما حدث لها بمزيج من التهكم والالم. الاشارات فى الفيلم كانت أكثر بلاغة من بعض المشاهد، منها اشارة ضابط الشرطة الى كثرة عدد المخبرين، أما مشهد الحوار بين "بشرى" وبين "نيللى كريم" حول الحجاب والملابس المثيرة فقد ظهر به خفوت فى أداء الممثلين بالاضافة الى أن "نيللى كريم" لم تظهر فى الفيلم بأى ملابس مثيرة أو قصيرة تبرر هذا الهجوم التى قامت به ضدها الموظفة المحجبة فقد أعارتها فقط فستان قصير من دولابها. فساد منظومة الأخلاق ومعايير الخطا والصواب والايجابية والسلبية أمور لمسها الفيلم ولم يمنحها مساحات كافية، ويحسب للفيلم رغم أى ملاحظات انه لم يتاجر بقضية التحرش ولم يكن مدعياً وهو يطرحها، ولهذا يستحق أن ينضم عن جدارة الى القائمة الفقيرة لأهم أفلام عام 2010.