أجمل الزهور لم تتفتح بعد وأبدع القصائد لم تكتب بعد وأروع الأفلام لم تصنع بعد.. إن الحياة حتى تتقدم دائماً ما ترنو للأمام.. تنتظر الغد بأن يأتي بما هو أفضل من الأمس.. لا بأس بالطبع من أن نعتز بأشياء جميلة من الماضي ونردد بعض ما حفظناه من أغنيات وموسيقى وأفلام الماضي، ولكن علينا ألا نقع أسرى فعل "كان" بل نقول مثل ليلى مراد: "كان فعل ماضي ما تسيبه في حاله.. والماضي احنا مالنا وماله" لا أطالب بالطبع أن نلتزم تماماً بمقولة ليلى مراد ونقول الماضي احنا مالنا وماله، لا بأس بقليل من "كان" ولكن علينا أن نوقف تماماً هذا الاعتقاد الراسخ الذي يجعلنا نصبح أبواقاً للماضي نعتقد بل ونجزم بأن الأيام الجميلة فقط هي تلك التي عاشها آباؤنا وأجدادنا.. وأن أجمل الأفلام هي التي شاهدها آباؤنا وأجدادنا. من الضروري بل والصحي أيضاً أن تعيش كل المجتمعات أحاسيس، "النوستالجيا"، الحنين للماضي على شرط أن تصبح هذه الأحاسيس أشبه بومضات تأتي على فترات متباعدة بين الحين والآخر، ويظل اليوم والغد هو الذي نعيشه أو نحلم به.. ودائماً ما أشعر أن عالمنا العربي يعيش في الزمن الماضي أكثر مما يعيش الحاضر، لدينا دائماً أحكاماً مسبقة نرددها حتى بدون أن نتأكد من صحتها، الكل يقول أفلام الأمس هي العصر الذهبي للسينما ونقصد به بالطبع الخمسينات في السينما المصرية وعندما تسأل أحد عن مطربه المفضل يقول لك على الفور "عبد الحليم حافظ" على اعتبار أن عبد الحليم هو أخر صيحة في الغناء، أما المطربة المفضلة فإنها ولا شك "أم كلثوم" وأنا بالطبع لا أقلل من الإنجاز الفني لأم كلثوم ولا لعبد الحليم، وغيرهما من أساطين الغناء الذين قدموا لنا الكثير ولا نزال نتمتع ونردد إبداعاتهم، ولكن هل حقيقة بعد عبد الحليم وأم كلثوم وفيروز وعبد الوهاب وفريد الأطرش لم يظهر بعدهم في الساحة مطرب أو مطربة يعشقه الجمهور؟ إن الفن دائماً هو ابن الزمن وكما يتغير إيقاع الحياة يتغير أيضاً إيقاع الناس وبالتالي إيقاع الفن، كان محمد عبد الوهاب مرفوضاً كمطرب في الثلاثينيات لأنه جاء بأداء وبألحان مغايرة لمن سبقوه مثل عبد الحامولي ومحمد عثمان وكامل الخلعي، كذلك كان عبد الحليم مرفوضاً في الخمسينات لأنه جاء بأداء مغاير لما قدمه محمد عبد الوهاب. ومن المؤكد أن جيل "عمرو دياب" يختلف تماماً في أدائه عن جيل عبد الحليم وجيل "تامر حسني" يختلف عن جيل "عمرو دياب". المأزق أننا نستمع إلى تامر حسني بقانون عبد الحليم ونتابع نانسي عجرم ونحن نريد منها أن تمسك بمنديل أم كلثوم الشهير..!! إننا نعيش زمناً مختلفاً طرح أسلوباً مغايراً في التلقي ولو ذهبت إلى مقهى أم كلثوم الشهير في القاهرة لوجدت أن صور أم كلثوم على الجدران لا تزال تشهد على عظمة هذا الصوت وأن المقهى لا يقدم سوى أغنياتها، لكن صوت "قواشيط" الطاولة بات يعلو على صوت آهات أم كلثوم، كانت تقاليد هذا المقهى حتى الثمانينات من القرن الماضي تقضي بأن يأتي الرواد للاستماع فقط إلى صوت "أم كلثوم" مع مشروب ساخن أو بارد. لكن من المؤكد أن الناس تغيرت، وأيضاً تغير ذوق الجمهور. وعلينا أن نتعامل في أسلوب التلقي مع مفردات الزمن.. لم يكن هناك في الماضي على سبيل المثال "new look".. كان أقصى ما يفعله المطرب هو أن يرتدي بذلة وقميص على الموضة.. الآن المطرب يغير ملامحه مع كل شريط جديد وتابعوا عمرو دياب الذي يطل علينا مرة بذقن ومرة بدون، نراه مرة بشعر أسود وأخرى بشعر أصفر، نراه نحيلاً مرة وبعد ذلك نجده مثل مصارعي الأوزان الثقيلة وكاظم وعاصي وجورج وراغب ناهيك عن المطربات اليسا وديانا وكارول ورولا ونانسي وشيرين وآمال ماهر وأنغام وأصالة وغيرهن فأنت تشعر في كل مرة ترى واحدة منهن أنك لا تستطيع أن تحدد على وجه الدقة هل هذه مثلاً هي "أصالة" التي شاهدتها في الحفل الأخير أم أنها مطربة أخرى بعد عملية التجميل التي أجرتها ناهيك عن ما يفعله "البوتكس" وغيره من المستحضرات الطبية في تغيير الملامح.. لم يكن فريد ولا عبد الحليم ولا فوزي ولا محمد عبده ولا نجاة ولا فايزة مسموحاً لهم بأي شيء من هذا القبيل ولو فعلها أحدهم في الزمن الماضي لأتُهم بأشياء عديدة أقلها الجنون الآن المطرب الذي لا يغير في ملامحه هو الذي يُتهم بالجنون!! جميل أن نعود بين الحين والآخر إلى ماضينا الجميل ونستمتع بالأفلام والأغنيات القديمة على أن يصبح ذلك أقرب إلى الزيارة الخاطفة ولكننا بعدها نسارع بالعودة إلى الزمن الحاضر نقيم فيه ونعيشه بقانون هذا الزمن، لأن من يدير ظهره للزمن يتركه الزمن يعيش خارج الحياة يردد وحيداً "أمان يا لالالي" والناس تردد "أطبطب وأدلع".. نعم لا ننسى "أم كلثوم" ولا أغانيها ولكننا أيضاً نعلم أن هذا زمن "نانسي عجرم" وأخواتها!!