قبل 33 عاماً وبضعة أشهر، كنت مازلت أرفل في اليفاعة وبواكير العمر عندما عشت ذلك المشهد الذي ختم أول رحلة طويلة (نسبياً) أمضيتها خلف جدران زنازين فشلت عتمتها في إفساد جمال لوحة هائلة ورائعة لم يكن العبد لله سوي نقطة فيها أو ضربة ريشة واهنة علي سطحها المفعم بزحام المكونات والتفاصيل المدهشة.. ففي خلفية تلك اللوحة الحية النادرة المسجونة كانت تتمدد وتتراص وجوه عشرات الآلاف من بسطاء الناس من شتي الفئات والأعمار (بمن فيهم الأطفال) أما صدارتها فبدت تضج بألوان الطيف كلها وتزهو بمئات الشخصيات المرموقة التي تكاد تختصر تنوع وثراء الضمير الوطني كله تقريباً.. كتاباً وصحفيين ومبدعين وقادة سياسيين ونقابيين وقادة في الحركة الطلابية. هؤلاء جميعاً كان المرحوم أنور السادات حشرهم خلف أسوار السجون عشية انتفاضة الشعب في 18 و19 يناير عام 1977 متهماً إياهم بالمشاركة أو التحريض علي هذه الانتفاضة النبيلة التي سماها انتفاضة حرامية (لم يعش كثيراً ليري أثر «تسونامي النشل الوطني» الذي أطلقه وسهر خلفاؤه علي رعايته وتنميته حتي عم الخراب وطغي علي كل صعيد). وأعود إلي مشهد ختام رحلة السجن الأولي.. فقد صدر القرار القضائي بالإفراج عني مع اثنين من زملائي، وعرفنا بالقرار صباح اليوم التالي لجلسة المحكمة (التي كنا مثلنا أمامها للمرة الرابعة) عندما أبلغونا بأن نلملم حاجياتنا بسرعة لأن قوة من إدارة ترحيل المساجين وصلت وتنتظرنا، غير أننا تلكأنا وحاولنا قدر ما نستطيع تطويل زمن لحظات لا تنسي أمضيناها ونحن نتنقل بين أحضان عشرات رفاق السجن (سجن أبي زعبل) الذين اختلطت تهانيهم الحارة بدموعهم ودموعنا، لكننا أخيراً غادرناهم، وغاب ثلاثتنا في جوف صندوق سيارة الترحيل الحديدي.. تحركت السيارة وأخذت تلتهم الطريق إلي قلب القاهرة بينما نحن نترجرج ونتمخمض فيها بعنف احتملناه برحابة صدر علي أمل أنه المشوار الأخير قبل الحرية، فحتي ساعتها لم نكن نعلم أن تنفيذ قرار الإفراج مؤجل إلي الغد بسبب مصادفة أن هذا اليوم كان أجازة رسمية (لمناسبة ما) وكل شيء فيه عدا القمع والسجون معطل بما في ذلك تنفيذ أحكام القضاء بالإفراج، لكننا عرفنا أن عمر حبستنا سيمتد ليوم آخر عندما توقف الصندوق الذي يحملنا أمام بوابة «سجن الترحيل» العتيد الملحق ب«قسم شرطة الخليفة». أنهينا إجراءات دخول سجننا الجديد الذي هو عبارة عن مكان احتجاز مؤقت يتكون من ثلاث «تخشيبات» أو عنابر أولاها وأكبرها مخصصة للمساجين الرجال، والثانية (العلوية) للنساء، أما التخشيبة الأصغر (والأقل قذارة) فكان يطلق عليها آنذاك «تخشيبة الأجانب» لأن سكانها هم عادة من الموقوفين غير المصريين سواء الذين ينتظرون الترحيل من البلاد أو المتهمين في قضايا جنائية مازالت منظورة أمام المحاكم.. طبعاً كان نصيبنا السكن في تخشيبة المصريين الرجال التي كابدنا فيها أسوأ ساعات رحلة السجن الطويلة قبل أن يأتينا الفرج عندما رق قلب ضابط شاب وصعب عليه حالنا فقرر علي مسئوليته الشخصية نقلنا نحن «الطلبة» الثلاثة إلي تخشيبة الأجانب لكي نمضي فيها ليلة الحبس الأخيرة. أظن أن فرحتنا الحقيقية بالإفراج تحققت في اللحظة التي كنا نعبر فيها تلك الطرقة الصغيرة الفاصلة بين عالمين وزنزانتين.. استقبلنا في زنزانتنا الجديدة بحفاوة شديدة من نزلائها الخمسة الذين لم يكن فيهم أي «أجنبي» سوي «ميشا»، وهو رجل من رعية الدولة المسماة آنذاك «يوغسلافيا»، أما النزلاء الأربعة الباقون فقد كانوا شباناً فلسطينيين ينتمون لتنظيمات مقاومة مختلفة، لكن «تخشيبة» نظام الرئيس السادات جمعتهم تحت سقف واحد في انتظار الترحيل من مصر.. فقط لأنهم يتبنون عقيدة مقاومة وقتال إسرائيل. انتهت مراسم الاستقبال وتحلق حولنا سكان التخشيبة الأصليون دون أن ينسوا واجب الضيافة فقد أمر «بسام» الفلسطيني «ميشا» اليوغسلافي أن يعمل لنا شاياً بسرعة ويجهز لنا طعاماًِ (سمع «ميشا» الأمر باللغة العربية وأدهشنا أنه يفهمها ويستخدمها بإتقان اكتسبه من طول البقاء في السجن حيث كان ينتظر الحكم عليه في قضية تهريب مخدرات). .. وللحديث بقية.