«بعض الأدب يكتب التاريخ، أحيانا تكون الرؤية وثيقة لا شك في صحتها وأحيانا تكون فصلا ممتعا في كتاب تاريخ الإنسان».. هكذا قال أديبنا الكبير علاء الديب في كتابه عصير الكتب وهكذا فعلت الروائية المدهشة رضوي عاشور في روايتها الجديدة الطنطورية. من يملك أن يجمع كل هذه السنوات والأحداث والشخصيات الخيالية والحقيقية في عمل واحد دون أن يفقد العمل جاذبيته وعصريته هو كاتب لا نغالي إذا وصفناه بالعبقرية.. ما فعلته رضوي عاشور في روايته أمر مذهل. قدمت لنا رقية أو الطنطورية تلك الفتاة الصغيرة التي تحكي لنا بأسلوب رقيق وخفيف الظل كل الأحداث التي مرت بها بداية بالفترة التي عاشتها مع أهلها في قرية الطنطورة جنوبي حيفا قبل أن تحدث المذبحة التي حملت اسم القرية حتي الآن، تمر مع رقية علي حكاياتها وحكاية أبيها وعمها فقدان أهلها في تلك المذبحة.. تقفز معها تلك القفزات التي تختزل السنين كما تقول وستعيد معها شريط مليء بالذكريات تمر معها علي ناجي العلي ابن الشجرة ومخيم عين الحلوة وتستمع منها إلي قصص المواجهة بين أفراد المقاومة وأفراد الكتائب الرافضين للوجود الفلسطيني في لبنان وترحل معها في رحلات الشتات من صيدا إلي أبو ظبي إلي الإسكندرية تعيش معها تفاصيل الحياة الفلسطينية اليومية سواء حياة الوطن الأسير أو حياة المخيم الذي بني بين سكانه علاقات جديدة تجاوزت في قوتها وامتدادها روابط الأخوة والنسب. «كان أمراً صعباً وقاسياً أن أعيش كل هذه التفاصيل المؤلمة يوميا وأن أنقلها إلي صفحات الورق ولقد نشأت علاقة بيني وبين شخصيات الرواية وليلة تسليم الرواية أحسست أني سأفتقدهم» هذا ما قالته رضوي عاشور في حفل توقيع الرواية وهو يعبر بدقة عن ولعها الشديد برسم شخصياتها بكامل تفاصيلها بل إنها كانت حريصة علي أن تستفسر من أهالي المخيمات الفلسطينية في لبنان والأردن عما بعض التفاصيل المتعلقة بكيفية التهجير والتعامل مع الأسري وتوزيع المهجرين علي القري الأخري وهو ما يظهر بوضوح في الجزء الذي يأتي علي لسان رقية وهي تصف لحظة خروجهم من قريتهم عندما تقول: «حشرونا في شاحنتين وبدأت الشاحنتان في التحرك. صرختُ فجأة وجذبت ذراع أمي وأنا أشير بيدي إلي كومة من الجثث. نظرت أمي إلي حيث أشير وصرخت: جميل، جميل ابن خالي! ولكني عدت أجذب ذراعها بيدي اليسري وأشير بيدي اليمني إلي حيث أبي وإخوتي. كانت جثثهم بجوار جثة جميل، مكومة بعضها لصق ببعض علي بعد أمتار قليلة منا. أشير وأمي تواصل الولولة مع أم جميل علي جميل». مع فصول الطنطورية تتأكد أن الصور التي تراها علي القنوات الإخبارية والأفلام الوثائقية التي تؤرخ لمأساة فلسطين ليست هي كل الحكاية فخلف أرقام الضحايا وقصصهم التي تتصدر عناوين الجزيرة والعربية وغيرها من وسائل الإعلام آلاف التفاصيل الحياتية والإنسانية التي تستحق الاهتمام. يبقي أن نشير إلي أن أروع مشاهد الرواية هو ذلك الذي وصفت فيه رضوي عاشور لقاء أبناء المخيمات مع أهلهم علي الشريط الحدودي الفاصل بين الجنوب وبين فلسطينالمحتلة بعد تحرير الجنوب ولقاؤها المفاجئ بابنها حسن وعائلته وتلك التفصيلة العجيبة التي لا تعرف إن كانت خيالا أم واقعا عندما اكتشف أن أحد الصبية قام برسمها مرتين وطلب منها أن تري ما رسم فتكتشف أن اسمه ناجي ومن عين الحلوة.