تعليق وزير الثقافة علي بيان المثقفين الذين طالبوه بالرحيل يكشف عن مفهوم سطحي ومنظور بائس للمسئول الأول عن الثقافة في مصر رد حسني أثبت أنه لا يعرف من المثقفين إلا موظفيه ومحاسبيه وعكس خلطه بين المثقفين الحقيقيين و«المداحين» المصفقين له فاروق حسني شعرت بالرثاء البالغ، لوزير ثقافة المصريين المفترض، وأنا أقرأ تعليقاته المتهافتة علي البيان الذي وقّعه أكثر من مائة مثقف مصري، من مختلف المدارس الفكرية والأعمار والمواقع، يُطالبون فيه، بعد أن عددوا الإخفاقات والكوارث والانهيارات الثقافية، التي صاحبت جلوسه المديد علي كرسي الوزارة، ب «وجوب رحيل وزير الثقافة عن موقعه، ومحاكمته علي إهدار المال العام، وإضراره بالمصالح الوطنية، بعد أن أفسد هو وموظفوه الحضور الثقافي المصري علي المستويات المصرية، والعربية، والدولية». تعليق وزير الثقافة وسلوكه الملتاث، بعد أن وصله البيان يدل دلالة قطعية علي ذعر وارتباك شديدين، والأهم أنه يبين عن مفهوم سطحي ومنظور بائس للمسئول الأول عن أحوال وأوضاع الثقافة في مصر، ويعكس وجهة نظر بالغة التهافت والضحالة، عن وعيه بمعني الثقافة ومعرفته بدور المثقفين، تدينه قبل أن تدين الموقعين عن البيان، وتمنحهم مصداقية إضافية لما يُطالبون به، إذ أن السيد الوزير، أثبت برده أنه لا يعرف من المثقفين إلا موظفيه ومحاسبه، وخلط بين «المثقفين» الحقيقيين، وبين المداحين «المصفقين» له في المهرجانات والمناسبات، وعلي صفحات الجرائد والمجلات، وبحسه الأمني المرهف راح «يتقصي» الأمر، سائلا اتحاد الكُتّاب عن أعضائه من الموقعين، وكأن عضوية الاتحاد هي الشرط اللازم الجازم لأن يكون المرء، حسب نظرية الوزير، مثقفا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!. لن أجادل الوزير في هذه القضية الفارغة (رغم أن الأرقام الحقيقية عن أعضاء الاتحاد الموقعين علي البيان لا تقل عن عشرة أضعاف العدد الذي أعلنه الوزير، وبعضهم في قيادة الاتحاد ذاته، كالدكتور علاء عبد الهادي!)، ولن أناقش دلالة هذا السلوك البوليسي، الذي لا يليق بمسئول ثقافي ولا باتحاد للكتّاب، ولكني سأناقش مفهوم الوزير عن الثقافة والمثقفين، ولعلها أن تكون فرصة مناسبة، قد لا تتكرر لوزير الثقافة (!)، حتي يقرأ شيئا عن هذا الأمر بعض الأمور!. للثقافة تعابير كثيرة يا سيادة الوزير، (عددتها بعض المراجع بأكثر من مائة وستين تعريفا!)، ولقياسها معايير عديدة، ليس من بينها، للأسف، عضوية الاتحاد، فعند «ابن منظور»، ثقف الشيء أي حذقه، ورجل ثَقِف أي رجل حاذق، ويقال ثقفت الشيء أي حذفته ، ويُعَرِّفُ «المجمع اللغوي» مفهوم «الثقافة» باعتبارها : «جملة العلوم والمعارف والفنون التي يُطلب الحذق بها»، وبهذا المعني فالمثقف هو الشخص الحاذق، الماهر، الدربة، الواعي، الممتلك للفهم والمعرفة والإدراك. وبمنظور أوسع، فهناك من يري، مثل «هنري لاوست» أن «الثقافة»: «هي مجموعة من الأفكار والعادات الموروثة التي يتكون منها مبدأ خلقي لأمة، ويؤمن أصحابها بصحتها، وتنشأ منها عقلية خاصة لتلك الأمة تمتاز عن سواها»، وبهذا المعني ف «الثقافة» هي الكل المعقّد الذي يتضمن في ثناياه : المعرفة، والمعتقد الديني، والموروث الفكري والأدبي، ومنظومة القيّم، والمعاني، والمهارات، والرموز، والمفاهيم والاعتقادات الاجتماعية، والتقاليد والعادات المتواترة، والسلوكيات المتناقلة، المحمولة من جيل لآخر، في إطار مساحة جغرافية معينة، وضمن مجتمع إنساني بذاته. أي أن كل إنسان واع ٍ وفاهم ٍ، ينتمي إلي جماعة بشرية، أو«شعب»، يمكن أن يكون مثقفا، بغض النظر عن شهادته العلمية، أو معرفة الوزير به، أو العضوية في اتحاد الكتاب!، مادام يمتلك رؤية للحياة، ونظرة محددة لتفسير وقائعها، وفهما واعيا لعلاقاتها، وانحيازاً لمنظومة فكرية واضحة ومتماسكة . وبمعني آخر فالثقافة، يا سيادة الوزير، أولا وأخيرا موقف!. واتساقا مع هذه الرؤية، فقد كان الكاتب العالمي الشهير، «ميلان كونديرا»، (وهو بالمناسبة ليس عضوا في اتحاد الكتاب، وبالطبع فهو كأغلب الموقعين علي البيان لم يتشرف بأن تسمع عنه!)، يري أن «الثقافة»: «هي ذاكرة الشعب»، واعتبر أن تفريغ أمة من ثقافتها، أي من ذاكرتها وأصالتها، علي نحو ما حدث في عهدكم الميمون، «يعني الحكم عليها بالموت»، ولذلك فلقد حرصت الدول الاستعمارية دائما علي محو ذاكرة الشعوب الواقعة تحت الاحتلال، وتجريف ثقافتها، حتي يسهل السيطرة عليها، ومن هنا نفهم، كذلك، لماذا تُُصر إسرائيل دائما علي «التطبيع الثقافي» مع المثقفين المصريين، لأن «تبادل الثقافة والمعرفة لا يقل عن أي ترتيبات عسكرية وسياسية «كما ذكر الرئيس الإسرائيلي الأسبق «إسحق نافون»، بحضور الرئيس المصري الراحل «أنور السادات»، يوم 27مايو1979، بجامعة «بن جوريون». وليت جريرتك يا سيادة الوزير اقتصرت علي فهمك السطحي لمفهوم «الثقافة»، أوعلي إهمال موظفيك الذي راح ضحيته عشرات الشهداء، أوعلي فشل وزارتك في تأمين ممتلكات الدولة من الآثار والتحف واللوحات الثمينة، أو علي تدهور لوضع مؤسسة ثقافية أو هيئة من هيئات الوزارة، أو علي إهمال وزارتك المزري لشئون وأحوال المرضي من المثقفين المصريين الحقيقيين، أو علي تجاهلك الفاضح لرموز من أعلام الثقافة والفكر في مجتمعنا، أو اتهامك المرفوض لهم بأنهم «تُجّار ثقافة»... إلخ إنها في الواقع أكبر من ذلك وأشمل!. «الثقافة هي ذاكرة الشعب» يا سيادة الوزير، وبصرف النظر عن مئات الملايين المنهوبة من جوقة الموظفين الذين اخترتهم في مواقع الوزارة العليا، المرتشين والفاسدين، الذين شرّف الكثيرون منهم زنازين السجون بجرائم مخلة بالشرف، وبصرف النظر عن أحوال المتاحف المتردية، وأوضاع السينما المتهاوية، وحالة المسرح المصري المنهار، وبصرف النظر عن شهداء الإهمال والترهل الذين ما زالت صرخاتهم تدوي في الآذان، وعن قبح المنظر المصري العام الذي يعكس انحطاطا ثقافيا غير معهود ولا مسبوق، وعن تراجع مكانة مصر الثقافية في العالم العربي والإسلامي، وتآكل قوتها «الناعمة» التي كانت مضرب المثل، قبل عهدكم السعيد!. بصرف النظر عن هذا كله، فأنت تتحمل ياسيدي المسئولية المباشرة، كواحد من أقدم وزراء هذا النظام، والمنوط به مهمة تطوير أوضاع الثقافة في البلد، عن تجريف «الذاكرة المصرية» حتي الأعماق، واستبدالها بفراغ قاتم ومُرعب، يثير أشد القلق علي مستقبل هذا الوطن، الذي نري ملامحه الرهيبة في طيات اليوم رأي العين!. واسأل، يا سيادة الوزير، أي شاب مصري، وحتي من خريجي الجامعات المرموقة ،عن اسم لرمز من الرموز الوطنية الكبيرة، أو واقعة من الوقائع التاريخية المهمة، حتي يروعك ابتذال وسطحية وتفاهة الرد، وهو معذور في جهله، ما دام الثقافة السائدة، في عهدكم الميمون، لا تعدو ثقافة كرة القدم، والأغاني التافهة، والاهتمامات الهابطة التي يروج لها سدنة «إعلام الريادة» وثقافة «الفكر الجديد»!. وما دام مسئول الثقافة الأول في مصر لم يسمع عن المثقفين، ومنهم من أعضاء اتحاد الكتاب نقاد كبار مثل: د.أمينة رشيد، ود.عبد الحكيم راضي، ود.ثناء أنس الوجود، ود.كمال عيد، ود.حامد أبو أحمد، ود.صلاح الراوي، ود.صلاح السروي، ود.أحمد الخميس، وصافي ناز كاظم، وشعراء قديرين مثل: ماجد يوسف وأحمد زرزور وفريد أبو سعدة ود.علي منصور، وحسين القباحي وفتحي عبد السميع، وعاطف عبد العزيز، وروائيين كبار مثل: صنع الله إبراهيم، ود.علاء الأسواني، وسعد القرش، وسلوي بكر، وفوزية مهران، وفتحي إمبابي، وفنانين مثل عز الدين نجيب، ومفكرين لهم حضورهم الرفيع في مشهدنا الثقافي مثل: شوقي جلال، ود.الطاهر مكي، ود. محمد حافظ دياب، ود. حسام عيسي، ود.مصطفي عبد الغني... إلخ. ونخبة من السياسيين، والأكاديميين المصريين ومنهم، د.حسن نافعة، وكمال أبو عيطة، وأبو العلا ماضي، وأمين إسكندر، وأحمد بهاء شعبان، ود.عبد المنعم أبو الفتوح، وأعضاء مجلس شعب مثل سعد عبود وحمدين الصباحي، فضلاً عن مستشارين وإعلاميين ومؤرخين مثل د.عاصم الدسوقي والمستشار محمود الخضيري، والإعلامي حمدي قنديل، وناشرين مثل علي عبد الحميد وسيد الغضبان، وصحفيين لهم أقلامهم الحرة القديرة مثل د.عمار علي حسن، ود.عمرو الشوبكي، وكارم يحيي، وغيرهم، علي نحو ما أوضح د.علاء عبد الهادي: في رد سابق علي الوزير، فلا يمكن أن نلوم أجيالاً كاملة أخضعت علي مدي العقود الماضية لثقافة غسيل المخ المنظم، حتي أصبح مثلها الأعلي لاعب كرة، أو ممثل تافه، أو نجم سينمائي ساقط!. لكن، ومع هذا كله، فمن الخطأ الجسيم أن نقصر النظر إلي أخطاء، بل خطايا السيد الوزير، بمعزل عن سياسات النظام الحاكم بمجملها. فالعصابة التي اختطفت حكم مصر، في غفلة من الزمن، وأوصلتنا إلي تخوم المجاعة والفقر والعطش والبؤس الشامل، وأورثتنا المرض والعلل، وأهدرت مكانة بلادنا، وضيعت كل ميراث الأجداد وحقوق الأحفاد، وحولتنا إلي شعب من المتسولين علي موائد الرحمن ... ما كان لها إلا أن تفرز ثقافة مبتذلة، كتلك التي عبّرَ عنها المسئول الثقافي الأول فيها !، وما كان يمكن لها إلا أن يحكمها موظفون كموظفي سعادتكم، (أفضلهم مرتش ٍ )، وأعفّهم حرامي!. فإذا كنا نطالب برحيلكم وبمحاسبتكم علي جرائمكم في حق مصر، فهذا أبسط حقوقنا، وإذا كنت تظن أننا شعب من البلهاء المعتوهين، فأنت مخطئ، وإذا كنت تعتقد أن حظيرة سيادتكم قد استوعبت كل مثقفي مصر المحروسة، فلعل الأيام تثبت لك كم كنت واهما؟!.