البداية كانت هناك في العباسية حيث تظاهر المئات من الشباب القبطي الغاضب بالكاتدرائية المرقسية للمطالبة برجوع السيدة كاميليا زوجة كاهن دير مواس تدارس سمعان بعد دعوة الأنبا أغابيوس أسقف دير مواس لتحريرها من مختطفيها علي حد تعبيره - آنذاك - أما النهاية فكانت مختلفة تماماً بعد أن سلم الأمن السيدة كاميليا ل «المقر البابوي» بدلاً من ردها لزوجها وهو ما بررته قيادات كنسية بأنها تحتاج لفترة نقاهة و استجمام، منذ شهر حتي الآن لم تخرج، حتي تواترت أنباء عن إسلامها وسارعت المواقع الإسلامية بتأكيد الخبر ونشر تسجيلات صوتية لأشخاص أكدوا الأمر ولم تحرك الكنيسة ساكناً، إلي أن وصل الأمر للدعوة لمظاهرة ثالث يوم رمضان، يوم الجمعة الماضي، بمسجد النور بالعباسية أجهضها الأمن، لكن المتظاهرين نظموا مظاهرة أخري يوم السبت الماضي بعد صلاة القيام بمسجد النور أيضاً، فضلاً عن الدعوة للتظاهر يوم الجمعة المقبل لمطالبة الكنيسة بالإفراج عنها في الوقت الذي ردت فيه قيادات كنسية مقربة من البابا أن هذا الأمر «شأن كنسي» لا يحق لأحد التدخل فيه. ليكون السؤال الآن والأزمة لم تهدأ بعد، والشواهد تشير إلي أنها ستظل قائمة لفترة مقبلة.. هل استطاعت الكنيسة أن تتصرف بحكمة في إدارة الأزمة منذ بدايتها؟ أم أنها اهتمت بإثبات قدرتها علي استعادة أبنائها ولو عنوة دون النظر في تداعيات هذا الأمر؟ اللافت للنظر أن هذا المنهج تكرر في معظم أزمات الكنيسة المتعلقة بتغيير أحد الأقباط لديانته، إذ إنها غالبا ما تتعامل بمنطق «فوقي» وتتعامل مع الاجتماعي بمنطق «الديني» فرأيها صواب وما دونها خطأ، وللمفارقة أن ظفرت بالنتائج لصالحها في كل أزماتها التي كانت الدولة طرفاً فيها، لكنها فشلت في تطبيق الأمر نفسه علي الأزمات الخارجية مثل قضية دير سلطان بفلسطين الذين يسيطر عليه الأحباش تحت رعاية الاحتلال الإسرائيلي. فعلي سبيل المثال عندما أثيرت أزمة انشقاق ماكس ميشيل الملقب بالأنبا ماكسيموس وأعلن عن تأسيس مجمع مقدس للمسيحيين الأرثوذكس في مصر والشرق الأوسط، موازيا للمجمع المقدس للكنيسة الأم التي يقودها البابا شنودة الثالث بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، شنت الكنيسة هجوماً ضارياً عليه واتهموه بالعمالة للأمن تارة و الخارج تارة أخري فضلاً عن محاولة إشعال الفتنة بين الأقباط وأخيراً إشعال الفتنة بين الأقباط والمسلمين بقراره للدعاء للمسلمين في صلاة القداس الإلهي وإعلانه أنه يحب النبي «صلي الله عليه وسلم». البابا شنودة اعتبر ماكسيموس من الخارجين عنه ولم يهتم بمناقشته بل وصل الأمر لتأكيد قيادات كنسية أن الكنيسة لن تصلي عليه «صلاة الجنازة» بعد وفاته باعتباره مهرطقاً، و بنفس المنطق قامت الدولة التي أعطته بطاقة رقم قومي بمجرد أن أعلن نفسه «بطريركا موازياً» للبابا بسحب بطاقة الرقم القومي منه وهو ما أراح الكنيسة باعتباره النصر المنشود، دون النظر إلي النشاط الذي أحدثه ماكسيموس حتي بعد سحب بطاقة الرقم القومي حتي ظل يمارس عمله الرعوي كفرع لكنيسة نبراسكا «الولاياتالمتحدة» التي رسم فيها بطريركاً ، كما لم تكلف الكنيسة نفسها جهد النظر إلي ما أثاره ماكس بخصوص رفض الطلاق إلا لعلة الزني وكذلك رفض البابا الذهاب إلي القدس باعتبار أن هذا الأمر يدخل ضمن خلط الدين بالسياسة. أما أزمة العلمانيين الأقباط فيتلخص سببها في ترفع الكنيسة عن مناقشة مشاكلها مع أبنائها دون أن تعي بذلك أنها تخسر جهوداً عظيمة من محبين لها لا يسعون سوي العمل علي إصلاح شئونها الداخلية فحسب دون السعي لأي منصب أو غيره ، وربما لا يعرف البعض أن مطالب العلمانيين بالإصلاح تتفق مع تاريخ الكنيسة الذي يكتشف ارتباط مراحل الضعف بسيادة الرأي الأوحد ومحاربة غيره حتي لو لم يختلف مع الموروث الآبائي في صحيحه، واعتبار أن الرأي الشخصي هو رأي الكنيسة بعيداً عن معايير التقييم المستقرة في نهج الآباء والمعروفة عند الدارسين لهم. أبرز مطالب العلمانيين هو إعادة الضوابط الحاكمة للعلاقة بين الإكليروس والعلمانيين لتخرج بها من إطار التبعية إلي التكامل في ضوء الأبعاد الحقوقية والاجتماعية واللاهوتية، انطلاقاً من كون الكنيسة جسداً واحداً متكاملاً ، فضلاً عن ضرورة عودة الدور العلماني المشارك في اتخاذ القرار في الجوانب المدنية الإدارية والمالية، ومعالجة سلبيات تجربة المجلس الملي؛ المسمي التكوين الصلاحيات الدور التنموي. إضافة إلي العمل مراجعة القوانين المنظمة لاختيار البابا والأسقف والعلاقات البينية داخل منظومة الإكليروس لتتفق مع رسالة الكنيسة وفقاً للتقليد الكنسي المُحقق ( الترشيح ،الانتخاب ،الصلاحيات ،العلاقات البينية). المثير للدهشة أن أحداً من قيادات الكنيسة لم يتناول الأوراق بشكل موضوعي بل انساقوا جميعهم إلي تسفيهها، وإن لم يقرأوها! ويري كمال زاخر ،مؤسس التيار العلماني ،أن الكنيسة القبطية تفتقد لفكر إدارة الأزمات شأن أي مؤسسة مصرية ، فضلاً عن غياب الشفافية و ثقافة العمل الجماعي فالكنيسة هي البابا والبابا هو الكنيسة الذي يقرر كل شئ وعلي الجميع السمع والطاعة، وهو لا يسمح لأي شخص أن يطرح أي رؤي في إطار المساهمة منه في حل الأزمة سواء كان ضمن الهيكل التنظيمي للكنيسة أو من خارجها إذ تعتبر ذلك يدخل في صلب التدخل في اختصاصاتها، وهو ما يعد إحدي آفات خلط «الدين بالسياسي». وتتوالي الأزمات «اختفاء القاصرات، الخلاف مع الكنيسة الإنجيلية بشأن قانون الأحوال الشخصية الموحد لعدم اعتراف البابا بمراسم الزواج في الكنائس غير الأرثوذكسية، سرية محاكمة الأساقفة...» و في كل أزمة تتصور الكنيسة أنها خرجت فائزة لكنها في الحقيقة تخسر كثيراً، ففي أزمة اختفاء القاصرات سارعت الكنيسة بتوجيه إصبع الاتهام إلي جهات ،إسلامية ،تتهمها بخطفها دون بحث هذا الأمر ومعرفة أسباب الاختلاف وفي أزمتها مع الكنيسة الإنجيلية تعنتت وتمسكت برأيها وأيدتها الدولة، وبخصوص سرية محاكمة الأساقفة فالكنيسة ترفض حتي الآن عمل «قوانين مكتوبة للمحاكمات» وترفض تدخل أي جهة في الأمر باعتباره شأناً داخلياً لا يخص أحداً مما تسبب عنه ثورة مكتومة في المجمع المقدس لا يعلم أحد متي يمكن أن تتفجر داخل الكنيسة، رغم أنها تفجرت مؤخراً أكثر من مرة ضد الدولة تتهمها بالتقاعس عن حماية المسيحيات اللاتي يختفين دون سابق إنذار. يقول المفكر القبطي رفيق حبيب، الكنيسة لم تعد قادرة علي إدارة الغضب حيث صار إعلان قرار الغضب قراراً «تلقائياً» يتم اتخاذه علي مستوي محلي، بما يعني تصعيد المشكلات بسرعة رغم تفاهمات «الكنيسة» مع الدولة. يضيف: قيادات الكنيسة بعد ذلك تتباري في أن تسوق التبريرات دون النظر لحقيقة الواقعة بعيداً عن الآثار المترتبة علي ذلك، فأزمة كاميليا مثلاً تم الترويج لها علي أنها مختطفة بعد ذلك قيل أنها تركت بيت الزوجية لخلافات عائلية ثم أثير الحديث حول إسلامها، وهو أمر يكرر سيناريو «وفاء قسطنطين» بما يعد تصرفاً ضد الحرية بجميع صورها وأبرزها «حرية الاعتقاد» رغم أن المنطق يقول إن الأقليات دوماً هي المستفيد الأول من حرية الاعتقاد. وتساءل حبيب: الكنيسة متحفظة علي «كاميليا» منذ أكثر من شهر دون أن يتحرك مسئول واحد للمطالبة بظهورها رغم أنها بررت الأمر في البداية بأنها تحتاج لفترة استجمام «قد طالت» وهو تصرف يضر بموقف الجماعة القبطية تماماً ويسبب جرحاً غائراً في صدور الأغلبية المسلمة. بدوره أوضح المفكر جمال أسعد أن الكنيسة من البداية تحاول فرض وجهة نظرها للي ذراع الدولة وذلك بقيامها بحشد الأقباط وسط ادعاءات باختطافها بدعوي أنها مقدسة باعتبارها زوجة كاهن، واستنكر أسعد احتجاز الكنيسة لمواطنة «مصرية» لمدة تربو عن الشهر دون أن يعرف عنها أحد شيئاً و كأنها استعادت «خروفاً» تاه عنها!، متسائلاً : كيف تأتي الدولة بها رغماً عن إرادتها لتسليمها للكنيسة بما يهدد بإشعال فتنة حقيقية ويعطي الحق للمسلمين في المطالبة بعدم السماح للدولة لمن يريدون التحول للمسيحية بإعلان «تنصرهم» وهو في النهاية أمر يدعم فكرة دولة الأقباط، وكأن الأقباط تابعون للمقر البابوي وليس لمصر! في المقابل أكد أسقف بارز ،طلب عدم ذكر اسمه ،أن البابا شنودة قرر منع أي أسقف أو مطران أو كاهن من الحديث عن أزمة كاميليا باعتبار أن هذا الأمر «انتهي» تماماً ولا حاجة لنا، ككنيسة، في فتحه أو إثارته مرة أخري. وأضاف الأسقف: الموضوع انتهي تماماً، في رأي البابا ،بعد أن استطاعت الكنيسة استرداد بنتها مرة أخري وهي في فترة تأهيل نفسي ربما تطول ولن تنتقل للدير الآن تماماً. وبخصوص الضجة المثارة بضرورة ظهورها لنفي ما أثير بشأن إسلامها أكد أن البابا يرفض ذلك تماماً مثلما رفض قبل ذلك ظهور وفاء قسطنطين لنفي «وفاتها». أما رمسيس النجار - المستشار القانوني للبابا شنودة الثالث - فأكد أن كل ما قيل عن إسلام كاميليا لا يوجد عليه دليل مادي واحد ونحن في الكنيسة في غني عن الرد عن «القيل والقال»، و بمجرد أن يظهر مستند واحد مما يروجون لإسلامها فسوف ترد عليه الكنيسة فوراً لأن الكنيسة تنأي بنفسها الدخول في مهاترات لا طائل من ورائها.