أصبح من الظواهر الرمضانية في مصر أن يزداد عدد المتسولين في الشوارع وعلي الكباري وجميعهم ينتظر ما يجود به كل السائرين، فالكل يتسابق في إخراج الصدقات حتي ولو كان هو نفسه يحتاج إلي صدقة ولكن من نوع آخر، وهذا ما يمكن أن نسميه التسول الظاهر أو المباشر حيث هناك شخص يطلب صدقة، ولكن هناك أشكال أخري من التسول والتي كتبت عنها من قبل وأسميتها التسول غير المباشر والذي يأخذ أشكالا مختلفة وتتسع رقعته في هذا الشهر الفضيل حتي قد يتصور البعض أننا قد تحولنا إلي مجتمع من المتسولين، ومن أمثلة ذلك جحافل من المتسولين علي صور مختلفة فمنهم من يمسك مقشة ولا ينظف بينما الشوارع بها جبال من القمامة، وآخرون يطاردون السيارات لتنظيفها، ونساء افترشن الأرصفة لبيع قليل من الخضراوات التي لا تباع بل تستخدم كديكور لزوم التسول، ومع اقتراب موعد الإفطار تجد هؤلاء وقد حصلوا علي الكثير من لفائف المأكولات والنفحات المالية، قد يقول البعض وماذا في ذلك، أفراد يريدون أن يتصدقوا وآخرون فقراء يبحثون عمن يتصدق عليهم ويستغلون هذا الشهر الذي تزداد فيه الحسنات لكي يحصلوا علي ما يحتاجون، ولكن انتشار هذه الظاهرة يستدعي التوقف لمحاولة تفسيرها، فمن الواضح أن الفقر قد ازداد في مصر لدرجة أن الكثيرين لم يجدوا ما يفعلون غير الخروج للتسول ولم يعد لديهم من الحياء ما يمنعهم من ذلك، وقد يكون بينهم من جعلها حرفته وأصبح لديه من المهارات ما يحصل به علي الكثير من الصدقات التي تحوله من الاحتياج إلي الاستغلال، وهؤلاء لا يستحقون ما يجود به المتصدقون، أما بالنسبة للمتصدقين فلقد اختاروا الوسيلة الأسهل وقد لا تكون الأفضل لصدقاتهم فهناك من الشيوخ من يقول إن علي المتصدق أن يتحري المحتاج وليس مجرد إبراء ذمته بإعطاء من يجده، فقد يكون محترفا للتسول. هناك شكل آخر للتسول، حيث يقف الرجل بعد الصلاة ليطلب المعونة لسداد إيجار شقة أو لشراء دواء أو غير ذلك من الحاجات، وتجد حال هؤلاء أفضل ممن يتسولون في الشوارع وكأنهم ينطبق عليهم المثل «عزيز قوم ذل» ولكن نعود للسؤال: ومن أدراك أنهم محتاجون فعلا وليسوا محترفي تسول ؟. ومن أشكال التسول غير المباشر انتشار ظاهرة البقشيش، وهناك من يقول إن الكثير من الأعمال التي تقدم للمواطنين لا يحصل من يقوم بها علي أجر من صاحب العمل علي أساس أن البقشيش يكفيه ومن ذلك عمال محطات البنزين وتوصيل الطلبات إلي المنازل وغير ذلك من الخدمات الصغيرة وهو ما جعل الشباب القائم بهذا العمل يعتقد أن ما يحصل عليه هو حقه مقابل عمله وليس بقشيشا كما يعتقد من يدفعه، ولعل الكثيرين يلاحظون أن كلمة الشكر لم يعد يقولها أحد من هؤلاء لمن يدفع له بل إذا فتح فمه فبكلمة (ماشي). كذلك أعتقد أن ما قد يسميه البعض بالرشاوي هو في حقيقته نوع من التسول مثل الموظف الذي يطلب الشاي أو الحلاوة والتي تتمثل في جنيهات قليلة مقابل ما سيقدمه لطالب خدمة حكومية، وهناك من يعمل في تسهيل الخدمات وإنجاز الأوراق في المصالح الحكومية مقابل مبالغ قليلة فهذا نوع أقرب للتسول منه للرشوة، وهناك من تجدهم في كل مكان يبادرونك بالعبارة التي أصبحت من المأثورات وهي (كل سنة وأنت طيب) ومنهم جنود الشرطة علي أبواب البنوك ليستحيي من قام بصرف مبلغ كبير من المال فيعطيه مبلغا صغيرا. ويصبح السؤال: لماذا يزداد التسول في مصر ؟.. بالطبع السبب في اتساع هذه الظاهرة يعود إلي البطالة التي انتشرت بين الشباب وعدم قدرة المواطن علي إعالة نفسه وأسرته فيلجأ إلي الحكومة، ولكن الحكومة لا تستطيع توفير هذه الحاجات، فكان الحل في دعوة الأغنياء للتبرع وتوسع الأمر فهناك فقرات ثابتة في العديد من البرامج الإذاعية والتليفزيونية التي تعرض لشكاوي الناس ويفتح بعضها الباب أمام التبرعات عبر التليفون وكأنه تسول علي الهواء، وهناك بريد الصحف الذي يحفل بالمشاكل والكوارث، كل ذلك يعطي الانطباع بعدم قدرة المجتمع ممثلا في حكومته علي مواجهة مشاكل المواطنين وأن الحل أصبح في أيدي قلة من الأغنياء، وبالتالي يصبح الإنسان المحتاج أكثر تذللاً في طلب حاجته لأنه كلما تذلل أكثر أثار الشفقة وبالتالي يحصل علي ما يريد، ويصدق في ذلك القول بأن الحاجة أذلت أعناق الرجال، وأصبح التذلل والتسول سمة تنتشر بين الكثيرين ولا يجدون غضاضة فيما يفعلون فتجد المواطن يتذلل للحصول علي ما يواجه به مشكلته أو ليحصل علي حقه ويتذلل للحصول علي عمل، وكلما ازداد الفقر تكالب الفقراء علي ما يجود به الأغنياء وأصبح هناك من يتباري في التذلل أكثر لكي يحصل علي حاجته، وأمام غلق أبواب المسئولين كثرت أعداد المحتاجين التي تقف أمام أبواب الصحف والتليفزيون لاستدرار العطف عله يحصل علي ما يريد، وبالتالي يكون الحديث عن كرامة المصري مصحوبا بالشعور بالهوان والمهانة. ومما يزيد من المشكلة أن الفقر مصحوب بتفاوت رهيب بين الفقراء والأغنياء ومع زيادة مظاهر الترف يزداد شعور الفقير بسوء حاله مما يجعله يتنازل عن الكرامة لكي يحصل علي بعض الحاجات التي يطلبها أبناؤه وخاصة مع تخلي الحكومة عن تقديم العلاج والتعليم المناسب، كذلك من أسباب زيادة ظاهرة التسول افتقاد القيم الشخصية ففي مجتمع يروج لأهمية المال ويكتسب الفرد مكانته مما يمتلك من مال لا يشعر الفقير بالمهانة من أن يتسول ما يريد بل قد يصل الأمر إلي ما يمكن تسميته بالتنطع والتفنن في أشكال التسول تجنبا لعدم العمل في عمل قد يراه شاقا ما دام المجتمع لا يعطي أهمية للعمل بل بمقدار ما تحصل عليه من مال أيا كان مصدره. وأخيرا بماذا نخرج من هذه الصور المختلفة للتسول، النتيجة التي لا يختلف عليها اثنان أن الفقر قد اتسعت رقعته ودخل تحت لوائه العديد ممن كانوا من متوسطي الحال، وأن الفقر قد أدي إلي التغير في قيم وسلوكيات المصريين فبعد أن كنت لا تعرف المحتاج من عزة نفسه أصبح عاديا التذلل للحصول علي حاجته وبالتالي ضاعت الكرامة. والسؤال الذي علينا الإجابة عنه كيف نعطي الفقير المستحق دون إهدار كرامته ودون أن يدخل إلي المجال من لا يستحق، وقبل ذلك ما دور الدولة في مواجهة الفقر الذي كانت هي سببا في زيادته بسياساتها ؟