لماذا؟ هذا سؤال بديهي حين تسمع الخبر: إحالة عماد الكبير إلي محكمة أمن الدولة العليا طوارئ. لماذا السرعة الواضحة في قرار الإحالة؟ وكيف يتهم شخص بإرهاب منطقة ولم يقبض عليه متلبساً، كما لم يكن ساعة تسليمه لنفسه يحمل سلاحاً من أي نوع؟ أعرف أن الحكاية المنشورة في كل الصحف، أربكت المجتمع المدني، وجعلت السؤال: هل دافع عن بلطجي؟.. بدلا من أن يكون: كيف سار التحقيق؟ وما علاقة القضية الجديدة بمحاولات سابقة لتوريط عماد في قضايا بلطجة، بعد حصوله علي حكم ضد الجلاد الذي عذبه بطريقة وحشية؟ نجحت حكاية الشرطة في أن تجعل الشخص لا القانون محور الجدل في قضية خطيرة، بل هي الأخطر في محاولة بناء مجتمع مدني يستطيع الوقوف أمام الإفراط في استخدام السلطة. كيف يصنف عماد الكبير في خانة الإرهابيين بعد عدة ساعات فقط من تسليم نفسه؟ عماد هو أول مدني يحال إلي محكمة أمن الدولة العليا طوارئ، بدون أن يكون عضواً في تنظيم إرهابي، أو يضبط بحوزته أسلحة. المحكمة من المحاكم الاستِثنائية، ويفتقد المتهم أمامها إلي الكثير من شروط المحاكمة العادلة. ويبدو أن هناك قوي خفية تريد إرسال رسالة ترويع عبر دفع قضية عماد بهذه السرعة، إلي هذه الإجراءات الاستثنائية، وهو ما لم يحدث مع قضايا أكثر خطورة، أو في حوادث كان ضحيتها عشرات القتلي ( حادث البربري الشهير في القليوبية مثلا..) الرسالة من قوي خفية. والقوي الخفية قديمة جداً، ليست مرتبطة بنظام مبارك، لكنها مع مبارك تضخّمت وتوحّشت بعشوائية وفوضي أفقدتها تقاليد كانت تحترمها هذه القوي في عصور سابقة. كما أن توحشها الحالي هو توحش الضعفاء والعجزة لا الكبار. القوي الخفية في عصر مبارك أيضاً غير مقنعة، ليس لديها ما تهيمن به علي العقول أو تستميل به القلوب. خيالها ضعيف ومحدود. في السنوات الأخيرة أدي ضعف قدرات هذه القوي علي الهيمنة إلي السماح بمساحة حركة ملحوظة، حركة احتجاج أو بذور قوة مجتمع مقموع منذ أكثر من 50 عاماً. وأصبح مستوطنة كبيرة لنموذج من المواطنين، صنّفهم علم الاجتماع تحت سلالة: «الإنسان المهدور». الوصف هو عنوان كتاب لعالم مصري متخصص في علم النفس هو الدكتور مصطفي حجازي. و«الإنسان المهدور» درجة أعلي من الإنسان الذي يعيش تحت ضغط القهر والاستبداد والطغيان، وبتعبير بسيط هو إنسان يتعرّض إلي: «عدم الاعتراف بالطاقات والكفاءات أو الحق في تقرير المصير والإرادة الحرة وحتي الحق في الوعي بالذات والوجود». المقهور يمكنه أن يرفض ويتمرد ويثور، ورغم كل شيء فإنه يحصل علي اعتراف من السلطة التي تقهره، بشرط أن يخضع لمشيئتها ورغبتها، أما المهدور، فإنه يتعرض إلي شيء أفظع: عدم اعتراف السلطة بوجوده أصلاً.. تقتله، تعذّبه، تحرمه من حقوقه، تزوّر إرادته، تسرق ثرواته، وتلغي وجوده، عادت الضحية إلي الحياة، وخرج صوتها الهامس إلي العلن.. صوت واهن، لكنه يزلزل المطمئنّين إلي استقرار جبروتهم، صوت أقرب إلي النشيج، لكنه يخدش الحائط الصلب الذي تقام خلفه حفلات التعذيب. هكذا أصبح صوت «عماد الكبير» علامة علي طريق، ساعده تحرر التقنيات الحديثة من سلطة النظام، فأصبح الإنترنت جنة افتراضية لوعي الضحايا، وديوان شكاوي عصرياً بالصوت والصورة. وفي الوقت نفسه، فكّت الحكومة قبضتها قليلاً وسمحت بمرور صحافة مستقلة تبحث عن المسكوت عنه في روايات محنطة للصحافة المتحدثة باسم النظام. هكذا أصبح للضحايا منصات متعددة خارج سيطرة السلطة. يتحرك المجتمع بثقل ليتخلص من سنوات الخرس الطويلة. ولهذا كل ما يصدر عنه هو صرخات وزغاريد. أصوات انفعال قصوي من الفرح إلي الألم. لكنها طاقة جديدة تتكوّن بعيداً عن سيطرة القوي الخفية. وهذه هي العلامة الإيجابية في محاكمة ممدوح إسماعيل. زغاريد عائلات الضحايا هي إعلان انتصار لكفاحهم 3 سنوات ضد موت قضيتهم . طاقة جديدة استمدتها عائلات الضحايا من يقظة مشاعر الاحتجاج وقوة المطالبة، وصنعوا معجزة، كما حدث من قبل مع شعب دمياط (علي دلتا النيل)، حين تضامنوا لوقف مشروع إجريوم للأسمدة، ومثلها إضرابات الصيادلة والمحامين والعمال وموظفي الضرائب العقارية. لم يعد الأمر كما كان: مجتمع متفرج وقوي خفية تحكم، تحرك المجتمع خطوة في اتجاه نمو جديد لقوة المجتمع المنسية منذ سنوات طويلة. زغاريد الضحايا في محكمة سفاجا صوت في سلسلة أصوات الضحايا. أصوات جديدة، ليست هي قوة المجتمع بالضبط، لكنها ضربات المحبوس في القفص.