المشكلة التي تواجه الكتابة العلمية في مصر، أن غالبية من يقدمون عليها هم متخصصون فقط- رحم الله العلامة د.أحمد مستجير-، بمعني أنهم يمتلكون المادة العلمية في صورتها الصرف النقية، لكنهم يقدمونها في صورة صلبة وجامدة و«مدرسية»، ليس هذا فحسب، بل إن عناوين إصداراتهم العلمية هذه عادة ما تكون «أكاديمية» بدورها خالية من التشويق، مما يجعل جمهور هذه النوعية من الكتب محدوداً للغاية، علي عكس ما يفترض أو يتمناه كثيرون، ومن حسن الحظ أن كل هذه الملامح المنفرة من قراءة الكتب العلمية غائبة تماما عن كتاب «كنتم عايشين إزاي» للدكتور شريف قنديل. من أول العنوان اللافت الذي قد يصلح عنواناً لكتاب ساخر، يبدو واضحا أن الكتاب مختلف، وهو ما يتأكد عبر عناوين فصوله ذات الحس الأدبي شديدة الحميمية مثل «يوم دخل الراديو إلي منزلنا، عفاريت سيدنا سليمان، ياسارية الجبل والتليفون الخلوي، التخاطر أعجوبة نجيب محفوظ»، علي أن الكتاب لا يسترسل في حكايات تتعلق بعلاقة وسائل الاتصال بالبشر، بقدر ما يجعل ذلك مدخلا للغوص في تفاصيل علمية شائقة وبأسلوب بسيط غير معقد، يفعل ذلك في المقدمة قائلا:«تشير دراسات التطور إلي وجود الإنسان قبل خمسين ألف سنة، وفي واحدة من الكتابات الرصينة للكاتب أحمد علي بدوي «مجلة الهلال» افترض جدلاً أن متوسط عمر الإنسان يتخطي الستين بسنتين أو ثلاث، وأن من بين جميع من عاشوا من بني الإنسان إلي يومنا هذا قد تكونت سلسلة متعاقبة من الناس تتابعت أعمارهم تتابعاً محكماً «بحيث يبدأ عمر التالي فيهم من البشر فور انتهاء عمر السابق له»، فستجد سلسلة يبلغ عددها ثمانمائة شخص «لو قسمت خمسين ألفا علي اثنين وستين ونصف»، وقد تتشابك حياتهم التي شهدت تطور التكنولوجيا منذ وجود الإنسان حتي اليوم. واستناداً للنظرية السابقة يصبح المؤلف منتمياً للجيل التكنولوجي رقم 800، فيما ينتمي أبناؤه وكل من هم في مثل عمرهم للجيل رقم 801. وإذا كان أغلبنا الآن لا يستطيع التعامل مع جهاز التليفزيون دون استخدام «الريموت كنترول»، فإن المؤلف يسرد كيف قرأ في الستينيات عن أن هناك سحراً علمياً قد يحدث في القريب يمكن للمرء من خلاله أنه يفتح جهاز التليفزيون أو يغلقه بحركة من أصابعه بينما هو جالس بعيدا عنه، وكيف أنه تمني حينذاك أن يعيش حتي يري ذلك اليوم المعجزة الذي يتعامل فيه مع التليفزيون عن بعد خاصة أن التليفزيون وقتها لم يكن قد انتشر بالأساس في مصر!، ليكون السؤال الذي يجيب عنه الكتاب إذن هو «كيف يعمل الريموت كنترول» أصلا؟! يقول: بالضغط علي أزرار جهاز التحكم عن بعد تبدأ سلسلة من العمليات ينتج عنها تنفيذ أوامر في جهاز الاستقبال فحين تضغط علي جهاز التحكم عن بعد لرفع الصوت، فإنه يحدث تلامساً في الجزء الذي يقع أسفله، وتدرك الدائرة الكهربية أن الأمر قد صدر «ارفع الصوت» وتقوم بإرسال هذا الأمر للصمام الثنائي في مقدمة جهاز التحكم عن بعد، ويقوم الصمام الثنائي بإرسال مجموعة من الإشارات علي هيئة رقم مكون من آحاد وأصفار فحواها ارفع الصوت.. تخيل أن كل هذا يحدث بضغطة زر واحدة فقط.. العلم نور فعلا! وهكذا يتم تضفير الإنساني بالعلمي بامتداد صفحات الكتاب الشائق والمفيد حقا، مثلما يحدث في ذلك الجزء المخصص عن تطور البريد في العالم، وكيف أن رئيس هيئة البريد الأمريكية قال بثقة عام 1893: إنه بعد مائة عام لن يجد مستخدمو البريد وسيلة أكثر أمنا من إرسال خطاباتهم إلا عبر العربات التي تجرها الجياد، فيما يمكن تمييز الرسائل المهمة عن طريق فارس يركب جواداً سريعاً!، ومن هذه المفارقة اللطيفة ينطلق المؤلف ليتحدث عن نشأة وطريقة عمل جهاز الفاكس الذي ينقل الأوراق والصور من مكان لآخر في غضون ثوان مشبها إياه بعفريت سيدنا سليمان الذي نقل عرش سبأ في ثوان!، وهو أمر دفعه لأن يطلق علي الإنترنت اسم «عالم ما بعد العفاريت»، وكيف أن نقل الرسائل عبر أجهزة الكمبيوتر بدأ عام 1971 بشكل بدائي ثم صار عنصرا أساسيا يعتمد عليه العالم كله الآن، وكيف أن الإنترنت أصبح وسيطا اجتماعيا فوق العادة لدرجة أنه من بين كل 16 سيدة ورجل يتزوجان في أمريكا هناك سيدة ورجل علي الأقل تعرفا عبر الإنترنت، موضحاً الفارق بين «الإنترنت» و«الشبكة الدولية العنكبوتية» التي نعرفها اختصاراً ب«www»، فالأولي هي بنية أساسية وبرامج توفر الاتصال بين أجهزة الكمبيوتر فيما الثانية هي «تجميع للوثائق والمصادر المتصلة والمعلومات»، الأمر الذي يعني أننا عندما نقول إننا نستخدم الإنترنت فإن هذا قول مغلوط لأن الصحيح أننا نستخدم «الشبكة الدولية العنكبوتية».. شكرا إذن للاختصار والمفاهيم المتداخلة طبعا، لأنه من الصعب علي الواحد أن يقول لصديق له إنه سيرسل له إيميلاً علي «الشبكة الدولية العنكوبتية» بدلا من الإنترنت حتي لو كان المصطلح الأخير خطأ! وإذا كان الكتاب يحمل عنوانا استنكاريا «كنتم عايشين إزاي»، فإن فصوله تختتم بمحاولة للإجابة علي سؤال عن تصوره للحياة في القرن الثاني والعشرين يقول: «قياسا علي سرعة تغير التقنية وتطور العلم.فإننا لن نستطيع تخيل كيف ستكون حياتنا في القرن الثاني والعشرين، فمهما جنح بنا الخيال، فإن ما سيحدث في الواقع بحلول القرن الثاني والعشرين سيفوق الخيال»، وكأن إجابة السؤال تشير إلي أن أحفادنا في القرن المقبل سينظرون إلينا في استغراب وهم يرددون السؤال الاستنكاري نفسه «كنتم عايشيين إزاي»؟!