مرة بعد مرة، يؤكد «روتستين» في كتابه «خراب مصر» أن قيام إنجلترا بشراء أسهم مصر في قناة السويس كان عملاً لا هدف له إلا تسويغ احتلالها. ومرة بعد مرة ألفت النظر إلي ما بين بيع القناة بالأمس وبيع «أصول مصر» اليوم من شبه مطابق، إذ البيع في الحالين للأجانب، وبثمن بخس، ومن شأنه أن يؤدي إلي الإفلاس والاحتلال. والأكثر من ذلك أن «الشريك الأجنبي» عاد اليوم ليستعيد دوره الذي كان، في سالف العصر والأوان، وبعد أن كان الأجنبي يبحث عن مصري يشاركه، ليوجد له موطئ قدم في أرضنا وسوقنا، أصبح المصري اليوم يبحث بأي ثمن عن أجنبي يشاركه، ليفتح له الأبواب المغلقة، ويحميه بفضل جنسيته غير المصرية من هادمي الشركات وناهبي الاستثمارات. يقول «روتستين»: إن صحيفة «تايمز» البريطانية نشرت في 5 من أكتوبر 1875، أي قبل ستة أسابيع من شراء أسهم مصر في القناة، خبراً مفاده أن الدولة العثمانية لن تدفع إلا نصف سندات الدين العام، وتؤجل نظير فائدة سداد النصف الآخر. و«كان هذا الخبر بمنزلة إعلان عن إفلاس الحكومة العثمانية، اضطربت له أسواق لندن اضطراباً فظيعاً، وتعدي تأثيره السندات العثمانية إلي السندات المصرية الخاصة بديون إسماعيل... لا شك في أن شراء أسهم قناة السويس كان الباعث عليه توقع ما يؤدي إليه إعلان تركيا إفلاسها، ألا وهو انهيار تركيا ومصر معاً. غير أن كل إنسان يعلم جيداً أن هذا التوقع لم يصدق علي الأقل فيما يتعلق بتركيا، لأن خوف الدول الأوروبية بعضها بعضا قد منع كلاً منها أن تفصل فيما بينها وبين الباب العالي، وبذلك استطاع الباب العالي أن يخرج من عراكه مع دائنيه فائزاً منتصراً، واضطر حملة السندات التركية وهم صاغرون أن يقنعوا بالقليل الذي قُسم لهم. غير أن القضاء الذي لم يجر بما كانوا يتوقعونه لتركيا، قد عزموا علي أن يجروه علي الأقل بما توقعوه لمصر، وعلي ذلك لم تكد إنجلترا تشتري أسهم قناة السويس حتي وقع أول تدخل صريح لها في شئون مصر الداخلية». وهكذا فإن «تركيا» هي التي عجزت عن سداد ديونها، لكن «مصر» هي التي أفلست، من ناحية لأن أوروبا خافت من الأثر السلبي سياسياً واقتصادياً لانهيار الدولة العثمانية فٍيها، ولهذا سعت أوروبا إلي تجنب هذا الانهيار، علي نحو ما نراها تفعل اليوم مع اليونان. ومن ناحية أخري، لأن «مصر» كانت فريسة سهلة، متعبة، مثخنة بالجراح منذ هزيمة أسطول «محمد علي» أمام أسطول التحالف الأوروبي في «نوارين»، مروراً بالحروب الطويلة المضنية التي خاضها «إسماعيل» دفاعاً عن منابع النيل، وصولاً إلي أن أصبحت مصر مدينة ب 68 مليون جنيه، مثقلة بفوائد فاحشة، وياله من ماض تنسحب علي الحاضر تفاصيله بتمامها وزيادة! وزاد الطين بلة، أن «إسماعيل» وبسذاجة لا مبرر لها قال لقنصل إنجلترا العام بالقاهرة «الجنرال استانتن» إنه يحتاج إلي «موظف قدير عليم بالنظم المتبعة في مالية حكومة جلالة الملكة ليعاون ناظر المالية المصري في سد الخلل الذي يعترف به سموه في هذه النظارة. وأعيد هذا الطلب كتابة بعد أسبوع من ذلك، ولكن بعد أن عُدل وجعل طلب استعارة سيدين يشرفان علي الدخل والخرج خاضعين لإرشاد ناظر المالية وأمره». كان الطلب حجة ممتازة للتدخل، وفرصة تلكأت الحكومة الإنجليزية في انتهازها 3 أسابيع «ثم جاء الرد فكان مخيفاً بعض الشٍيء، فبدلا من أن يبادر اللورد دربي (وزير الخارجية) إلي إرسال الكاتبين اللذين طلبهما الخديو، أقبل يستشير وزارة المالية المرة بعد المرة، ثم أخبر الجنرال «استانتن» في 27 من نوفمبر (1875) أن الحكومة تري أن ترسل إلي مصر بعثة خاصة تنظر هي والخديو فيما يسأله سموه من النصح في الشئون المالية». ويسجل «روتستين» دهشته من طريقة الإنجليز في الاستجابة ل«إسماعيل»، الذي طلب موظفاً أو اثنين لمعاونة وزير المالية والعمل تحت إمرته، «فحول اللورد دربي ذلك الطلب قوة واقتداراً إلي طلب نصح. ورأي أن يستبدل بالموظفين بعثة مالية خاصة. ومع ذلك فقد رضي الخديو بما عرض عليه، ولسنا نعلم أكان رضاه لحاجة في نفسه، أم لسوء فهمه الأمر». كان الأمر كله أشبه ب«تجربة أخيرة» للاحتلال، علي غرار «تجربة الأداء» التي تسبق افتتاح العروض المسرحية. وشُكلت البعثة المالية من خمسة من كبار موظفي الحكومة الإنجليزية، يتقدمهم رئيس الصيارفة «مستر كيف» الذي زوده اللورد دربي برسالة قال فيها «ولا تشك حكومة جلالة الملكة في أن الخديو سيكون علي غاية الصراحة في معاملته لكم، وأنه سيسهل لكم كل التسهيل الوقوف علي حقيقة شئون مصر المالية، وبذلك تستطيعون أن ترفعوا إليها تقريراً وافياً». ويورد «روتستين» تعليق صحيفة «تايمز» علي الرسالة الذي تقول فيه: «ليس لدينا أقل دليل علي أنه (أي الخديو) كان يريد موظفاً كبيراً يفحص حساباته، ويزجر خدمه، ويسدي النصح إليه، ويخبر العالم أجمع عن موعد إفلاس خديو مصر، إن كان ثمة إفلاس». وفي أحد الهوامش ينقل «روتستين» عن «تايمز» ما نشرته في عددها الصادر بتاريخ 24 من مارس 1876، حيث كتبت تقول: «إن الخديو لم يعرف ما جاء من أجله المستر كيف، وإنه اشتاط غضباً عندما عرف ما انتحله ذلك الموظف الخطير لنفسه من حق التنقيب في شئون مصر». يقول «روتستين»: إن الرأي العام في بريطانيا كان يعتقد أن «مستر كيف» سافر للمفاوضة في بسط الحماية الإنجليزية علي مصر، أو علي الأقل لتقرير الرقابة الإنجليزية علي ماليتها نظير مساعدة مالية كبيرة. وهو اعتقاد يعكس ما كان يتمتع به هذا «الرأي العام» من بعد نظر، إذ لم يتأخر «احتلال مصر» أكثر من 7 سنوات، كما يعكس أيضا شيئاً من «سلامة النية»، إذ افترض الرأي العام في بريطانيا أن فرض رقابة بلاده علي مصر يجب أن يكون مقابل مساعدة مالية كبيرة، بينما تفرض اليوم الولاياتالمتحدة رقابتها علي مصر مجاناً. تلك الرقابة التي يقوم بها «البنك الدولي»، ومقره واشنطن، ورئيسه موظف سابق في الإدارة الأمريكية، بفرض برامج اقتصادية محددة، نلتزم بها مجاناً، لأن «البنك الدولي» والولاياتالمتحدة يحصلان نقداً علي أكثر بكثير مما يقدمانه من قروض ومنح ضمن هذه البرامج، فضلاً عما تفرضه الولاياتالمتحدة علينا من التزامات سياسية. ونعود إلي بعثة «المستر كيف» التي فشلت، سريعا وذريعاً، نتيجة رفض «الخديو» تطفلها، وأيضا لأن فرنسا أرسلت قنصلها العام السابق في القاهرة «مسيو أوتري» مندوباً عنها لمنازعة «كيف» فيما عساه أن يعرضه باسم حكومة بلاده وحملة السندات الإنجليز. وقد قام «أوتري» بواجبة خير قيام، حتي أن «الخديو» عندما رأي رجلين يتباريان في استرضائه، أفهم «كيف» أنه يستطيع الاستغناء عن «إرشاد إنجلترا». ويشير «روتستين» إلي أن التعجل أفشل مسعي الإنجليز للاستيلاء علي مصر في تلك المرة، ويقول: «مما يؤسف له أن المحققين لم يكلفوا أنفسهم إخبارنا بالتفصيلات التي ذكرناها آنفا، بل نراهم يفتتحون كلامهم بذكر ما جري به القلم من قضاء، ويختتمونه بنفاذ ذلك القضاء؛ فأما ما بين هذين من الأطوار فإنهم لم يعنوا بذكره، بل عنوا بإغفاله». لكن نجاح «الخديو» في التخلص من بعثة «كيف» لم يمض دون مقابل، بل بثمن فادح هو عرش «إسماعيل»، وحياة وزيره الذي لعب الدور الأكبر في التصدي للأجانب، والدفاع عن استقلال مصر الاقتصادي، والذي كان قتله تمهيداً ضرورياً للاحتلال، وتقديماً لعميل لا عجب أنه يجد من يدافع عنه، بقدر ما يجد الوزير من يهاجمه حتي الآن!