أوقاف الفيوم تواصل فعاليات برنامج "صحح قراءتك" بالمساجد الكبرى    بعد صعوده أمس.. ماذا حدث لسعر الدولار في 9 بنوك ببداية تعاملات اليوم الأربعاء؟    فتح فروع بنك ناصر استثنائيًا يوم السبت المقبل لصرف معاشات شهر يونيو    توضيح حكومي بشأن تحويل الدعم السلعي إلى نقدي    وزير النقل يشهد توقيع مذكرة لإنشاء أول مشروع لتخريد السفن بميناء دمياط    ارتفاع أسعار النفط مع التوقعات بإبقاء "أوبك +" على تخفيضات الإنتاج    وفد مصر يشارك بالاجتماعات السنوية لمجموعة بنك التنمية الإفريقي لعام 2024 في كينيا    جنوب إفريقيا تعلن التوجه إلى مجلس الأمن للمطالبة بتطبيق قرارات محكمة العدل الدولية بشأن رفح    إخلاء مستشفى القدس الميداني في خان يونس    بعد مجزرة المخيم.. بايدن: عملية إسرائيل في رفح الفلسطينية لم تتخط الخطوط الحمراء    عاجل| إعلام فلسطيني: مروحيات إسرائيلية تنقل جنودا مصابين جراء معارك غزة لمستشفى ببئر السبع    عيد عبد الملك: منافسة الشناوي وشوبير ستكون في صالح الأهلي    «15قذيفة مثيرة».. ملخص تصريحات شيكابالا    كأس مصر، موعد مباراة المقاولون والترسانة والقناة الناقلة    المقاولون والترسانة.. مواجهة الجريحين في دور ال32 بكأس مصر    الحالة المرورية اليوم، زحام بالقاهرة والجيزة وسيولة بالطرق الصحراوية والساحلية (فيديو)    محاكمة مضيفة طيران بتهمة قتل ابنتها.. اليوم    صفحات الغش تنشر أسئلة امتحانات الدبلومات الفنية والتعليم «كالعادة» تحقق    إخماد حريق داخل شقة سكنية فى العمرانية دون إصابات    حظك اليوم وتوقعات الأبراج 29 مايو 2024: تحذير ل«الأسد» ومكاسب ل«الجدي»    بعد ترميمه.. "الأعلى للآثار" يفتتح مسجد الطنبغا الماريداني بالدرب الأحمر    قبل عرضه.. تفاصيل مسلسل «مفترق طرق»    وزارة الصحة تكشف المضاعفات الخطرة للولادات القيصرية غير المبررة.. انفوجراف    وزارة الصحة تكشف نصائح لمساعدة مريض الصرع على أداء مناسك الحج بأمان    "اختر صحتك قل لا للتبغ".. ندوة بطب عين شمس    «السبكي» يستقبل رئيس «صحة النواب» في زيارة تفقدية لمستشفى شرم الشيخ الدولي.. صور    متظاهرون مؤيدون لفلسطين يحاولون اقتحام سفارة إسرائيل في المكسيك (فيديو)    لهذا السبب.. مي نور الشريف تتصدر تريند "جوجل" في السعودية    دولة الإمارات وكوريا الجنوبية توقعان اتفاقية تجارية    30 دقيقة تأخر في حركة القطارات على خط «القاهرة - الإسكندرية».. الأربعاء 29 مايو 2024    تنسيق الشهادة الإعدادية 2024.. شروط المدارس الثانوية العسكرية والأوراق المطلوبة    3 دول أوروبية تعترف رسميا بدولة فلسطين.. ماذا قال الاحتلال الإسرائيلي؟    محمد فاضل: «تجربة الضاحك الباكي لن تتكرر»    أفضل دعاء الرزق وقضاء الديون.. اللهم ارزقني حلالًا طيبًا    الخارجية الروسية تعلق على تصريح رئيس الدبلوماسية الأوروبية حول شرعية ضرب أراضيها    هجوم مركّز وإصابات مؤكدة.. حزب الله ينشر ملخص عملياته ضد إسرائيل يوم الثلاثاء    90 عاماً من الريادة.. ندوة ل«إعلام القاهرة وخريجى الإعلام» احتفالاً ب«عيد الإعلاميين»    الصالة الموسمية بمطار القاهرة الدولي تستقبل طلائع حجاج بيت الله الحرام    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الأربعاء 29-5-2024    وظائف السعودية 2024.. أمانة مكة تعلن حاجتها لعمالة في 3 تخصصات (التفاصيل والشروط)    صلاة الفجر من مسجد الكبير المتعال فى بورسعيد.. فيديو وصور    رابط نتيجة الصف الثالث الإعدادي برقم الجلوس 2024.. موعد إعلانها وطريقة الاستعلام    حج 2024| هل يجوز حلق المحرِم لنفسه أو لغيره بعد انتهاء المناسك؟    حج 2024| ما الفرق بين نيابة الرجل ونيابة المرأة في الحج؟    مواقيت الصلاة اليوم الأربعاء 29 مايو في محافظات مصر    نصف شهر.. تعرف على الأجازات الرسمية خلال يونيو المقبل    جوزيف بلاتر: أشكر القائمين على منظومة كرة القدم الإفريقية.. وسعيد لما وصلت إليه إفريقيا    يرسمان التاتوه على جسديهما، فيديو مثير لسفاح التجمع مع طليقته (فيديو)    وزير الصحة التونسي يؤكد حرص بلاده على التوصل لإنشاء معاهدة دولية للتأهب للجوائح الصحية    إبراهيم عيسى يكشف موقف تغيير الحكومة والمحافظين    هل طلب إمام عاشور العودة إلى الزمالك؟.. شيكابالا يكشف تفاصيل الحديث المثير    رئيس رابطة الأنديةل قصواء: استكمال دوري كورونا تسبب في عدم انتظام مواعيد الدوري المصري حتى الآن    كريم فؤاد: موسيمانى عاملنى بطريقة سيئة ولم يقتنع بى كلاعب.. وموقف السولية لا ينسى    أسماء جلال تكشف عن شخصيتها في «اللعب مع العيال» بطولة محمد إمام (تفاصيل)    رسائل تهنئة بمناسبة عيد الأضحى 2024    أحمد دياب: فوز الأهلى والزمالك بالبطولات الأفريقية سيعود بالخير على المنتخب    إصابة 17شخصًا في تصادم ميكروباص بفنطاس غاز بالمنيا    ننشر أسماء المتقدمين للجنة القيد تحت التمرين في نقابة الصحفيين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد القدوسي يكتب : العاشق والعارف
نشر في الدستور الأصلي يوم 14 - 05 - 2010


فلم أر مثلي عاشقاً ذا صبابةٍ
ولا مثلها معشوقةً ذات بهجةِ
وكنت أري أن التعشقَ منحةً
لقلبي فما إن كانَ إلا لمحنتي
عمر بن الفارض
في 24 من مارس 1953م رحل الشاعر «إبراهيم ناجي» صاحب «الأطلال» التي نعرفها كما نعرفه، وربما أكثر:
لَيْتَ شِعْري أَيُّ أَحْدَاثٍ جَرَتْ
أَنْزَلَتْ رُوحَكَ سِجْناً مُوصَدا
وفي العام نفسه رحل أيضا «تيودور أرونو - يتش روتستين» صاحب الكتاب العمدة «Egypt's Ruin» أي «خراب مصر» أو «أطلالها» كما سبق أن أشرنا، وهي أطلال أخري يجهلها أكثرنا بقدر ما يجهلون صاحبها. وكم كان مغريًا أن أستهل الكتابة عن الأطلال التي لا نعرفها، بشيء من صاحبتها المعروفة، لولا أن «عمر بن الفارض» فرض نفسه، أو قل فرضته وشيجة بين العشق والمعرفة، حملها «روتستين» وحملته علي ذلك النمط الصعب في أطلاله، وهي وشيجة يمثل «ابن الفارض» أرفع أعلامها شهرة، علي نحو يستدل به عليها، بل يستدل بها عليه، فهو «سلطان العاشقين». وهو «العارف بالله».
لكن أي «عشق» هذا ونحن نتحدث عن كتاب سياسي، أصبح مرجعا تاريخيا، هو «خراب مصر» كما سنصطلح علي تسميته من الآن فصاعدا؟ وما الذي يغرينا ب «سلطان العاشقين» مدخلا للحديث، بينما هناك مدخل تاريخي شديد الإغراء، ولا تنس أننا بصدد مرجع تاريخي كما قلنا، ذلك أن العام 1953 شهد تعادلاً نادرًا في الكم والكيف بين وفيات العرب والروس، إذ فقد العرب مع «إبراهيم ناجي» الملك «عبد العزيز آل سعود»، وفقد الروس مع «روتستين» رئيس الاتحاد السوفيتي «جوزيف ستالين»، لتنقص الصفوف من هنا ومن هناك كاتبًا وزعيمًا؟
مدخل مغرٍ كما تري، لكن عشق «روتستين» للمعرفة كان أكثر إغراء، بفيضه الذي يبل القلب، وهنا لا بد من «ابن الفارض»:
وكفي غراماً أن أبيتَ متيماً
شوقي أمامي والقضاءُ ورائي
كذا قطع «العارف بالله» أيامه، واحدًا بين شوق يجذبه وقضاء يطلبه. وبذا ينطق «روتستين» في كل سطر من كتابه، وخذ مثلاً قوله: «إني لقوي الاعتقاد بأن العاقبة ستكون انسحاب الإنجليز من مصر»، بل كذا عاش «روتستين» حياته، التي بدت في ظروفها وتقلباتها أشبه بثوب مرقع، لا يصلح لشيء، ولا هو حتي يشبه مرقعات المتصوفة مصطلحة الفقر، بينما جاء منجز هذه الحياة متينا راسخًا. وما كان يمكن لمنطلقات كتلك أن تثمر نتيجة كهذه، لولا أن صاحبنا فر من تناقض اجتماعي وسياسي واظب علي أن يطلبه، إلي عشق للحقيقة لم يفتر شوقه إليها، وما كان يجاذبها، بل يمنحها نفسه، وهي تجذبه.
لكن: من هو «تيودور أرونو - يتش روتستين» مؤلف «خراب مصر»؟ ولماذا اهتم الرجل بقضية بلادنا التي كانت وقت أن وُضع الكتاب معضلة حقًا كل هذا الاهتمام، ودافع عن حقوقنا كل هذا الدفاع؟
سؤال علي أهميته لن تجد في «مقدمة الترجمة» ما يوحي حتي بأنه خطر علي بال المترجمين، ربما لأن الرجل كان معاصرًا معروفًا لهما، لكنه حتي في عصره لم يكن مشهورًا علي نحو ما يجعله «علمًا» لا يحتاج إلي تعريف. ثم إن الكتب تثبت تعريفات الأعلام أيضا، خاصة ونحن نعرف أنها لا توضع لتقرأ في عصرها وحده، و«الدهر ذو غير» ينسي الناس من كان مشهورًا، ويخمل من كان مذكورًا، بحيث لا يظل العلم علمًا دائمًا، وهي حقيقة أدركها أصحاب «الفهارس» الذين صنفوا كتبًا فقط للتعريف بالأعلام وغيرهم ممن تدعو الحاجة إلي التعريف بهم.
هذا ما كان من أمر المقدمة، أما «التمهيد» الذي يليها، وهو بقلم «ألفريد سكاون بلنت» أو «المستر ويلفرد سكاون بلنت» حسب المكتوب فنجد فيه عبارة تزيد الغموض غموضًا، وتضاعف الحاجة إلي التعريف بالمؤلف، إذ تربط موضوع الكتاب بشخص الكاتب الذي تقول عنه: «لقد وضعه رجل ليس بالإنجليزي، ولكنه لطول مقامه بيننا قد اتخذ إنجلترا وطنًا له وأصبح يغار علي شرفها. ولن يقدح في غيرته هذه أن يري بني وطنه قد طال أمد ضلالهم في المسألة المصرية، خاصة أنهم يوشكون أن يوردوا أنفسهم منها موردًا وبيئًا لا صدر لهم عنه، ولا يشرفهم وروده. هذا الكتاب ثمرة جهد عظيم بذله عقل شديد الملاءمة لموضوعه، لما طبع عليه من الدقة المتناهية، ولإحاطته بالعوامل الخفية التي تسيطر علي الشئون المالية الأوروبية، والتي تنذر إنجلترا بزوال ملكها».
من نافلة القول طبعًا أنك لن تجد في الكتاب أدني إشارة إلي هوية «ألفرد سكاون بلنت» كاتب التمهيد، ذائع الصيت لدي قراء العربية، وخاصة المصريين في زمن صدور الطبعة الأولي من «تاريخ المسألة المصرية» بحكم صداقته للإمام «محمد عبده» والزعيم «أحمد عرابي» وغيرهما من رجالات مصر، وبحكم كونه مؤلف كتاب «التاريخ السري للاحتلال البريطاني». أما اكتفاؤه في عبارته السابقة بالقول إن روتستين «رجل ليس بالإنجليزي»، دون أن يصرح بجنسيته ووطنه الذي ينتمي إليه، فهذا لأن المسألة تحتاج إلي تفصيل، ربما لم يجد «بلنت» المقام ملائمًا للقيام به، لكننا اليوم، وإكرامًا لخاطر قرن كامل مر علي صدور الكتاب، نفصل ما لم يفصله «بلنت»، حتي نعرف «روتستين» معرفة نافية للجهالة كما يقال قبل أن نشرع في قراءة ما كتب.
ولد «تيودور أرونو - يتش روتستين» عام 1871 لعائلة يهودية، في مدينة ليتوانية هي «كوفنو»، التي تعرف اليوم باسم «كاوناس». ولأن «ليتوانيا» كانت، منذ العام 1795م، تحت السيطرة الروسية، فإن «روتستين» ولد روسيا، لكن هذه الصفة تغيرت أثناء حياته عدة مرات، حيث احتل الألمان ليتوانيا مع جمهوريات البلطيق في العام 1915م، أثناء الحرب العالمية الأولي، ثم حصلت علي استقلالها في 1918 م، وأعلنت نفسها جمهورية برلمانية، اعترف الاتحاد السوفيتي بها في 1920، وانضمت إلي عصبة الأمم مع جمهوريتي البلطيق الأخريين أستونيا ولاتفيا في 1921م.
لم تستقر ليتوانيا طويلا، إذ وقبيل نشوب الحرب العالمية الثانية، عقد «هتلر» و«ستالين» اتفاقا في 1939، أطلق يد الاتحاد السوفيتي ليحتل جمهوريات البلطيق، ومنها ليتوانيا، أثناء الحرب العالمية الثانية في العام 1940، بعدها بعام واحد، أعادت ألمانيا احتلال جمهوريات البلطيق، ردا علي دخول الاتحاد السوفيتي الحرب ضدها، لكن الجيش الأحمر، نجح والحرب تلفظ أنفاسها الأخيرة في طرد الألمان، وإعادة احتلال ليتوانيا وأستونيا ولاتفيا. لتظل الجمهوريات الثلاث جزءًا من الاتحاد السوفيتي، حتي بدأت بوادر انهياره، إذ أعلنت ليتوانيا استقلالها في 1990، واضطرت موسكو للاعتراف بهذا الاستقلال، ومع الاعتراف السوفيتي بها انضمت ليتوانيا إلي الأمم المتحدة في العام التالي 1991، ثم إلي الاتحاد الأوروبي في 2004م.
والخلاصة أن روتستين ولد روسيا، ثم أصبح ليتوانيًا، ثم احتلت ألمانيا بلاده، ثم أصبح سوفيتيًا، وعلي هذه الصفة مات في 1953م، قبل أن تستقل بلاده مرة أخري بعد وفاته.
أما علي صعيد الانتماء السياسي، فقد كان «روتستين» شيوعيًا، غادر روسيا لأسباب سياسية في 1890م، واستقر في بريطانيا، حيث عمل صحفيا في أقسام السياسة الخارجية لجرائد: تريبيون، ديلي نيوز، مانشستر جارديان، وحصل علي عضوية اتحاد الصحفيين. كما عمل مراسلاً لبعض الصحف الراديكالية الروسية، وكان كاتب مقال في مجلة «الأزمنة الحديثة» لسان حال الحزب الاشتراكي الألماني. في 1895م انضم «روتستين» للحزب الاشتراكي الديمقراطي في بريطانيا، ممثلا لأقصي يساره، وفي 1900م أصبح مسئولاً تنفيذيًا للحزب، ثم أصبح عضوًا بارزًا في الحزب الشيوعي البريطاني. وفي العام التالي انضم إلي حزب العمال البريطاني، وإلي الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي، واقفًا مع البلاشفة (الأغلبية) ضد المناشفة (الأقلية)، وأصبح صديقًا مقربًا إلي «لينين» الذي كان إذا زار إنجلترا، حل ضيفًا علي بيت «روتستين»، في ميدان «كلابتون» بمنطقة «هاكني» في العاصمة لندن.
وعلي الرغم من أن «روتستين» كان معارضًا للاشتراك في الحرب العالمية الأولي، فإنه عمل أثناءها مترجمًا للغة الروسية لحساب وزارة الخارجية وشئون الكومنولث البريطانية.
وبعد 3 سنوات من الثورة البلشفية، قام «روتستين» في العام 1920م برحلة إلي موسكو، أرادها أن تكون قصيرة، لكنه لم يتمكن من العودة بسبب ظروف الحرب الأهلية. ليظل مقيما في روسيا، حيث تولي لجنة إصلاح الجامعة (1920-1921)، ثم عين سفيرا إلي طهران (1921-1922)، وبعدها أصبح عضو المجلس الإداري لمفوضية الشعب للشئون الخارجية. ثم عين مديرًا للمعهد العالمي للاقتصاد والسياسة في موسكو.
هذا هو «تيودور أرونو - يتش روتستين»، مؤلف كتاب «خراب مصر» الذي صدر منذ قرن بالضبط، والذي سنقرؤه معًا، ونقرأ 100 سنة تجري بين سطوره، بعد أن عرفنا عن كاتبه ما يجعله بحكم طبيعة الأشياء مختلفًا عنا، ويجعل ما قاله عن بلادنا وشعبنا وثيقة مهمة، أنصفتنا بقدر ما عرفتنا، ولعلكم ستتفقون معي في أن ما كتبه «روتستين» لم يكن فحسب توثيقًا لما جري، لكنه كان أيضا قراءة لما يجري علي بلادنا حتي اليوم!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.