أخيرًا.. تحقق أحد مطالب عمال المحلة، وتم التخلص من رئيس الشركة القابضة للقطن والغزل والنسيج. لا أعرف لماذا كانت الحكومة متمسكة ببقائه، رغم سوء الأحوال وسوء النتائج فى شركات الغزل والنسيج؟ ولا أعرف لماذا التخلص منه الآن.. وليس أمس أو أول من أمس؟ لكن السؤال هو: وماذا بعد؟ هل ستنصلح الأحوال بعد ذلك؟.. وهل سيتوقف طوفان الخسائر مع تغيير الإدارة، أم أن الأمر أكبر من ذلك وأعمق؟! ما حدث فى صناعات النسيج فى السنوات الماضية كان مأساة مئات المصانع الصغيرة التى أغلقت أبوابها، والقلاع الصناعية الكبيرة تدهورت بصورة لم تشهدها صناعة أخرى. كان ينبغى أن نغزو العالم بصناعاتنا من المنسوجات والملابس الجاهزة، فإذا بنا نصبح سوقًا لزبالة مصنوعات الدول الأخرى وحتى الملابس المستعملة، بينما مصانعنا تتوقف وعمالنا يعانون البطالة والمعاش المبكر! وتفرض علينا السياسة البائسة لحكوماتنا أن ندفع الإتاوة لإسرائيل إذا أردنا أن ندخل أسواق أمريكا على استحياء!
قلاع الصناعة الكبرى فى المحلة وكفر الدوار عانت ما عاناه القطاع العام طوال أربعين عاما من إهمال وإفساد متعمد. القطاع العام الذى تحمل عبء التنمية وتكاليف الحروب لسنوات أصبح فى ظل «الانفتاح السبهللى» هدفًا مطلوبًا من أجل التصفية لحساب مافيا عقدت الزواج المحرم بين السلطة والثروة الحرام، فكانت العقود الفاسدة، والبيع بسعر التراب، وترك المصانع بلا تجديد ولا قطع غيار حتى وصلت إلى ما وصلت إليه.
الضربة الأخرى القاصمة لصناعة النسيج «سواء فى القطاع العام أو الخاص» كانت فى فتح أبواب التهريب على البحرى، حيث تم استخدام كل طرق الاحتيال من عصابات التهريب لإغراق الأسواق بملابس رخيصة تدخل بدون جمارك وتباع دون ضرائب، وأيضا بتجارة «البالة» حيث الملابس المستعملة بكل ما تحمله من أمراض وأوبئة.
وبين التهريب من ناحية، والفساد وضرب القطاع العام والصناعة الوطنية من ناحية أخرى، ضاعت صناعة النسيج وأصبحت القلاع الكبرى فى المحلة وكفر الدوار وغيرها أمثلة للفشل والخسائر التى لا تحتمل، والإدارة العاجزة عن وقف التدهور. وتعددت الاحتجاجات والإضرابات منذ ما قبل الثورة، وتأخرت الحلول كالعادة ليعقّد الموقف يومًا بعد يوم.
الآن.. لدينا سياسة جديدة لحكومة محلب الذى تعهد بدعم القطاع العام وتحديثه ليكون -كما كان من قبل- عام قوة للاقتصاد القومى وليس وسيلة استنزاف له. والمهمة ليست سهلة، ولكنها ممكنة وضرورية، خصوصا فى صناعة مثل الغزل والنسيج تستوعب ملايين العمال، ويمكن أن تعود إلى مكانتها كأولى الصناعات المصرية القادرة على استعادة سمعة ومكانة المنسوجات القطنية المصرية فى العالم كله.
المهمة ليست سهلة، ولكنها ممكنة. وهى تبدأ من مرحلة زراعة القطن وحتى تسويق الملابس الجاهزة فى أسوان منضبطة، وبعد القضاء على التهريب وإغلاق منافذه، وبعد استعادة الوعى لدى كل مواطن بأن شراء قميص مصرى يعنى فرصة عمل لابنك أو أخيك، وماكينات تدور فى مصانع مغلقة، وعملة صعبة توفرها بدلا من أن ندعم بها عمالًا فى الصين أو فيتنام أو بنجلاديش التى أصبحت منتجاتها -للأسف الشديد- تغزو بلد القطن ورمزه الأساسى فى العالم كله.
عندما أرادوا قبل سنوات بيع «عمر أفندى» اقترحت أن يشتريه رجال الصناعة المصرية وأن تتحول فروعه إلى مراكز بيع لكل المنتجات التى «صنعت فى مصر» وفى مقدمتها الملابس القطنية. بعد أن بيع «عمر أفندى» لمستثمر أجنبى دخلت إلى أحد فروعه فلم أجد منتجًا واحدًا مصريًّا.. حتى الأثاث كان مستوردًا ومن الأخشاب الصناعية.
كان هذا تعبيرًا عن حال مصر وقتها، وعما يدبر للصناعة الوطنية، وعن تصور لمصر كسوق استهلاكية وليست مصدرًا للإنتاج، الآن تتغير السياسات «وكان لا بد أن تتغير» ويبقى أن يدرك الجميع أنه لا مجال للتقدم إلا بأن تعمل كل الطاقات المعطلة، وأن تضخ كل الاستثمارات الممكنة فى تعظيم الإنتاج وخلق فرص العمل وفتح أبواب التصدير لمنتجات نفخر بها.
تغيير رئيس شركة قد يسعد عمالًا غاضبين، لكن تغيير السياسات هو المهم، وتفجير طاقات الإبداع والعمل لدى المصريين جميعًا هو وسيلة التقدم، وعودة الاعتزاز بكل ما «صنع فى مصر» هو دليلنا إلى الطريق الصحيح.
الفرق بين مصر التى نريدها ومصر التى أرادها الإخوان والفاسدون فى النظام السابق هو الفرق بين «صنع فى مصر» و«طظ فى مصر».. وما أبعده من فارق!!