لا تنسي أنك في واشنطن، هذا التعليق المتكرر هو رسالة تنبيه وتحذير وأيضا تذكير بأنك في عاصمة القرار الأمريكي. ومن يعيش ويقيم ويعمل فيها يعرف أن التي تهيمن عليها وتحكمها وتتحكم فيها هي لغة المصالح. وأبجدية هذه اللغة الدارجة خاصة في هذا المكان تحتاج إلي جهد وخبرة لفهمها واتقانها حديثا وأفعالا. حتي في عام 2010. وبما أن مصالح عديدة قد تتطابق وقد تتضارب ولا شك أنها قد تتصادم أيضا فإن التراشقات السياسية عبر وسائل الإعلام هي الأخري سلوك معتاد وأسلوب متكرر في واشنطن. يقف أمامها المراقب باهتمام لرصد حركة الرياح واستقراء أحوال المستقبل. وفي كل الأحوال لا يجب أن تنسي ولا أن تتناسي: أنك في واشنطن. خلال الأيام الماضية ما شاهدناه من هجوم سياسي وإعلامي شرس علي الرئيس أوباما وإدارته من جانب الجمهوريين وعلي رأسهم ديك تشيني- نائب الرئيس السابق- كان ملمحا ليس غريبا علي واشنطن. وذكرنا أن واشنطن لا تُغير لغتها وأسلوبها. لقد اندفع تشيني وانتقد بشدة تخاذل وتردد الرئيس باراك أوباما في اتخاذ اللازم فيما يخص الإرهاب والإرهابيين. وقال تشيني عن الرئيس أوباما «كأنه يتظاهر بأن ليس هناك حرب ضد الإرهاب» وكان من الطبيعي أن يرد البيت الأبيض وبسرعة واصفا كلام تشيني بأنه ليس فقط غير صحيح بل أيضا غير لائق. ولم يتردد الكثير من الديمقراطيين في الاشارة إلي أن الجمهوريين يحاولون انتهاز الفرصة واستغلالها سياسيا من أجل كسب النقاط وتشويه أداء الإدارة خلال الشهور المقبلة. ووجه آخر من وجوه المواجهة أو المصادمة أو المماطلة السياسية وجدناه في تصديق وإقرار ترشيحات الإدارة. إذ تبين من خلال تقارير صحفية أن مجلس الشيوخ أقر خلال العام المنصرم نحو 500 اسم مرشح من جانب إدارة أوباما إلا أن هناك نحو 200 في انتظار رضا أو عدم ممانعة أعضاء المجلس خاصة الجمهوريين منهم لشغل مناصب عدة منها تنفيذية وقضائية ودبلوماسية. لذلك لم يكن غريبا أن يشير بعض المراقبين ( مع الضجة التي أثيرت حول الإرهاب وأمن الطائرات الأسبوع الماضي) إلي أن بعض المناصب الحيوية مع الأسف مازالت شاغرة مثل مدير إدارة أمن النقل التابعة لوزارة الأمن المحلي وملف المرشح لهذا المنصب الحساس مازال معلقا. جدير بالذكر أن من ضمن الترشيحات التي تم إقرارها قبل أجازة الكريسماس ورأس السنة المدير الجديد لوكالة التنمية الدولية (المعونة الأمريكية). والمدير الجديد اسمه راجيف شاه يبلغ من العمر 36 عاما. وهو يعد أول أمريكي هندي يصل إلي منصب رفيع مثل هذا. والهيئة التابعة للخارجية الأمريكية والمسئولة عن أكثر من 20 مليار دولار (هي حجم المساعدات الخارجية الأمريكية) تقف علي مشارف عهد جديد تعيد فيه إدارة أوباما النظر في أدوار وتوجهات المعونة الأمريكية ومجالات استثمارها في الدول النامية والمناطق الفقيرة. وآخر منصب شغله راجيف شاه كان وكيل وزارة بوزارة الزراعة الأمريكية. وملف المعونات الملف المثير والمهم خاصة بالنسبة لمصر وإسرائيل والمنطقة (بملفاتها الاقتصادية والسياسية) سيكون موضع متابعة ومناقشة في عام 2010. وحرصا من إدارة أوباما علي الالتزام بما تعهدت به من شفافية فقد أصدرت منذ أيام قائمة بمن قاموا بزيارة البيت الأبيض في الأسبوعين الأخيرين من شهر سبتمبر الماضي. وتكشف القائمة التي تم الإفراج عنها التي تضم أكثر من 25 ألفًا من الأسماء عن أن اللقاءات كانت تهدف لتحقيق مصالح مشتركة للجانبين، وأن البيت الأبيض عملا بلغة واشنطن ومنطقها كان يريد التواصل مع أصحاب المال والنفوذ من أجل دفع أجندة الإدارة. الملياردير بيل جيتس علي سبيل المثال كان في زيارة للبيت الأبيض يوم 21 سبتمبر الماضي وذلك للقاء لورانس ساندرز كبير المستشارين الاقتصاديين للرئيس. كما التقي جيتس الرئيس نفسه في المكتب البيضاوي يوم 28 مارس الماضي. والملياردير الشهير له مساهماته الكبيرة في مجالي التعليم والصحة. وقيل إن قائمة زوار شهر أكتوبر الماضي سوف يتم الإفصاح عنها خلال الأسبوع المقبل. وحسب ما كشفته مصادر أمريكية؛ فعدد الذين يزورون البيت الأبيض في الشهر الواحد قد يتراوح مابين 70 و100 ألف. إنها المصلحة المشتركة لغة اعتادها أهل واشنطن وأصحاب المصلحة المترددين عليها. ومعروف أن شارع بنسلفانيا الشهير يوصف بأنه شارع السلطة والسياسة، علي طرفيه يقع مركزا القوة والسلطة البيت الأبيض من الشمال والكابيتول مبني الكونجرس من الجنوب.وعندما تكون في واشنطن وتعيش فيها وبها ولها كما يقول أحد المراقبين توقع أنك تعيش حالة بل حالات من الانتهازية والابتزازية والاناماليزم واخطف واجري وأنا وبعدي الطوفان. قد نري في ذلك بعض المبالغة إلا أننا نري أغلب الحقيقة أيضا. منذ سنوات طويلة نصح الرئيس الأمريكي السابق هاري ترومان قائلا: إذا كنت تريد أن يكون لك صديق في واشنطن فاقتني كلبًا أو اشتر أو احصل علي كلب. كما قيل كثيرا علي لسان أهل واشنطن إن مكونات حديث واشنطن خاصة إذا تضاربت المصالح و تصادمت الذوات المتضخمة هي تلويث السمعة وتشويه الصورة واغتيال الشخصية وإنها رياضات تمارس ببرود أعصاب في العاصمة الأمريكية. وإنها ما تشتهيها وتتلذذ بها وسائل الإعلام. وحسب إحصاءات حديثة فإن العاصمة الأمريكية وصل عدد سكانها أخيرا إلي نحو 600 ألف (لأول مرة منذ 1991) ومعروف أنها تعرضت في العقدين الماضيين إلي انكماش سكاني وذلك بسبب نزوح أعداد كبيرة منها بسبب قلة الأعمال أو تفضيل العاملين فيها للضواحي حيث الظروف المعيشية أفضل. وقد شهدث واشنطن في السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية جذبا للسكان بحيث وصل عدد سكانها إلي 800 ألف إلا أنها بدءا من الخمسينيات من القرن الماضي شهدت تقلصا في عدد سكانها. وهي مدينة الحكومة الفيدرالية إلا أن الكثير ممن يعملون بها لا يعيشون بها ويفضلون العيش في الضواحي، المناطق المجاورة، ويتوجهون إلي واشنطن مع كل طلعة شمس ويغادرونها مع كل غروب شمس. وقد أصبح من الأقوال المعتادة في أي موسم للانتخابات أن يعلن المرشح ويتعهد بأنه نعم ذاهب إلي واشنطن إلا أنه لن يتغير أبدا بل إنه سيقوم بتغيير واشنطن. هكذا يقول ويتعهد وأيضا يتغير ويتبدل فيما بعد من يأتي إلي واشنطن. . ليتحدث بلغتها ويشارك في لعبتها.!!