يؤكد التمهيد الذي كتبه «ولفرد سكاون بلنت» لكتاب «خراب مصر» أن شيئا لم يتغير، وإن كان من تغيير فهو للأسوأ، وخاصة بشأن قابليتنا للاستعمار أو لل «استحمار». إذ يقول التمهيد الموقع بتاريخ 25 من أغسطس 1910: «لقد ألف المستر جلادستون أي وليم جلادستون - رئيس وزراء بريطانيا - عندما احتلت مصر منذ جيل من الزمان، أن يسوغ ضرب الإسكندرية بقوله إن واجبا يقضي به الشرف هو الذي حمله علي الذهاب إلي مصر. ذلك الواجب هو الوفاء بعهود ارتبط بها ولاة الأمور من قبله. ولكنه مع هذا كان يصرح بأنه متي أعيد النظام إلي نصابه أسرع إلي سحب جنوده في أقرب وقت ممكن، لأن ذلك واجب يقضي به الشرف أيضا». ولا يدهشنا أن نجد كلمات «جلادستون» تتردد بالرؤية الاستعمارية نفسها في تصريحات قادة القوة الاستعمارية الجديدة«الولاياتالمتحدة»، خاصة آخرهم: جورج بوش وباراك أوباما، وبينهما روبرت جيتس، وزير «الدفاع» والرجل الوحيد من إدارة «بوش» الذي احتفظت به إدارة «أوباما» تأكيدا من الإدارة الجديدة أنها ستواصل شن حروب الإدارة القديمة، وبالسياسة نفسها. كما لا يدهشنا أن نجد في بريطانيا «الاستعمار القديم» قادة ارتضوا لأنفسهم مكانة «التابع» وأصبحوا مجرد «صدي صوت» للتوجهات والتصريحات الأمريكية، ولا هو مدهش أننا لا نجد «بلنت»، ولا «روتستين»، ولا «برناردشو» آخر يفضح تهافت منطق الاستعمار بالصلابة والمبدئية نفسها التي ميزت هؤلاء الرجال ضميرا وأداء. لكن المدهش حقا هو أن نجد كثيرًا من صناع القرار وقادة الرأي في بلادنا «الحرة المستقلة»! مشغولين جدا بتبرير وتمرير جرائم الاستعمار، ودعوته إلي أن يرتكب مطمئنا ما تواني عن ارتكابه منها، مع ترويج أضاليله كأنها حقائق، والتسليم له بأكثر مما يطلب، وقبل أن يطلب. أما الأكثر إثارة للدهشة، فهو أن هؤلاء الأذناب، المجترئين علي أمتهم مهيضة الجناح، وشعبهم المقهور، ودولهم التي لا حول لها ولا قوة، يعتبرون اجتراءهم شجاعة، وتبجحهم نضالا، وافتياتهم علي الثوابت الوطنية تنويرا! «جلادستون» كان يتحدث عن «واجب يقتضيه الشرف»، وهو نفس ما ردده «بوش» في أكثر من مناسبة، منها كلمته التي ألقاها في 26 من نوفمبر 2005، مصرًا علي مواصلة الحرب، برغم غضب أسر 2000 من الجنود الأمريكيين الذين قتلوا في العراق وأفغانستان، وهي الأسر التي قال عنها بوش: «وليكن في علمهم أننا سنكرم تلك التضحية من خلال إتمام المهمة النبيلة التي ضحي أبناؤهم بأرواحهم فداءها»! وهي عبارة لا تتجاهل فقط الطبيعة الإجرامية للعدوان علي العراق وأفغانستان، لكنها تتجاهل أيضا معاناة الأمريكيين ومواطني الدول التي حالفت واشنطن بسبب هذه الحرب، ثم نسمع مازلنا وبرغم كل ما جري أصواتا في الغرب، وأذنابا لها في الشرق، تصر علي مواصلة الحرب، بدعوي أن «المهمة» لم تتم! مكررة المنطق نفسه الذي هلهله «بلنت» حيث يقول في تمهيده لكتاب «خراب مصر»: «الآن، وقد مضي علي ذلك أي علي احتلال بريطانيا لمصر ثمان وعشرون سنة، نري السير إدوارد جراي الذي خلف المستر جلادستون يردد لفظي الواجب والشرف مسوغا بهما ما أعلنه الإنجليز من عزمهم علي البقاء في مصر أبد الدهر. وحجته في ذلك، علي ما يمكن أن يفهم منها، أننا قد أقمنا في مصر زمنا طويلا نعمل علي استعادة النظام، وإدارة شئون البلاد، فلم نفلح في حمل المصريين علي الرضا بمقامنا أو لإسداء حق النصيحة لنا، فمن «العار» أن نتخلي عن واجبنا ونتركهم والفوضي التي لا بد أن تعقب عملنا هذا». ويعلق «بلنت» علي حجة «إدوارد جراي» فكأنه يرد علي بوش وأوباما وتشيني وجيتس، ويرد أيضا علي طابور طويل من «خلابيص طبل» الاستعمار والاستحمار في بلادنا حيث يقول: «أري أنه إن لم يلق هذا التفسير الجديد احتجاجا صريحا من الأحرار أشياع السير إدوارد جراي في مجلس العموم، فلا أقل من أن يكون بين أحرار الإنجليز والاسكتلنديين نفر قليل شريف يرون أنه ليس من السهل أن يوفقوا بين هذا التفسير وبين مبادئهم السياسية، وأنه لا بد من مغمز في هذه الحجة الغريبة، حجة ما يقضي به الشرف نحو قوم ليس بينهم وبين الإمبراطورية البريطانية صلة معترف بها، وليس لإنجلترا في بلادهم مركز مشروع، ثم هم يعلنون علي رءوس الأشهاد أنهم قد أصبحوا منذ أمد بعيد في غني عنا، وينادون أن اخرجوا من ديارنا. ولقد يتساءل هؤلاء الأحرار، أحرار المذهب القديم، وقد أصبحت المسألة مسألة واجب، أي دافع أخلاقي يدفعنا إلي حكم المصريين رغم أنوفهم؟ وعلام يمقتوننا هذا المقت كله إذا كنا حقيقة قد أوليناهم الجميل تلك السنين الطوال، ولا نزال نوليهم إياه؟ ولم يحرصون علي أن نخرج من ديارهم، إذا كنا قد أنقذناهم ولا نزال ننقذهم من أسباب الاختلال والفوضي؟ وفوق هذا كله، ما الذي يضطرنا إلي أن نعامل المصرين معاملة الأمم المقهورة لا معاملة الأصدقاء كما نزعم، لنحتفظ بنظام أرغمناهم علي قبوله؟ ألا يمكن توجيه السؤال نفسه مع العبارات التالية له إلي الولاياتالمتحدة؟ لقد قضينا علي حرية صحافتهم بعد أن احتللنا بلادهم طويلا، وأبينا أن نبر بما وعدناهم به من ترقية نظمهم، وبسطنا عليهم من جديد سلطان الحكم المطلق، وسلطنا عليهم شرطة سرية جديدة لا تألوهم تجسسا وكبسا للدور واعتقالا ونفيا وسجنا كما كان يُفعل بهم في أسوأ أيامهم الأولي. فإذا ما طالبونا بالجلاء عن بلادهم وفاء بعهودنا، عددنا ذلك «تمردا» منهم، وأنذرناهم بأن نرجع بهم، إذا لم يفد هذا الضغط القليل، إلي الحكم العسكري الصريح». ثم يقول «بلنت» مشيرا إلي «روتستين» مؤلف كتاب «خراب مصر»: «وأني لأوافقه فيما ذهب إليه من جهل الشعب الإنجليزي وجهل وزرائه وأنهما علة هذا كله، وأذكر أنه في صيف عام 1882، عندما كان السير بوشامب سيمور يطلق نيران مدافعه علي الإسكندرية (لأمور لا يعلمها بالدقة إنسان) ظهرت نشرة صغيرة عنوانها «السطو علي المصريين، نبأ فاضح» أورد فيها كاتبها مستمدا من الكتاب الأزرق، مجمل دسيسة الدائنين، وكيف أدت إلي انحياز إنجلترا إلي دائني مصر ضد المصريين... ولقد طبعت النشرة المذكورة ست مرات في نحو ستة أسابيع... ولقد درج علي هذا العهد ثمانية وعشرون عاما، ونفدت مذ زمن بعيد نشرة المستر سيموركي، وعفت ذكراها... كذلك أمست جميع الحقائق المالية التي أذاعتها، والتي لم يستطع أحد دفعها أو نقضها نسيا منسيا». هذه «الحقائق المالية» التي أشار إليها «بلنت» تقول إن الدائنين، الذين انحازت إليهم انجلترا، كانوا في جملتهم من اليهود، ولولا تدخل الإنجليز السافر وتآمرهم علنا لسددت مصر ديونها، لكن الصفقة الاستعمارية كانت تقتضي بأن تبقي الديون لتبقي الفوائد، وأن يسهل الدائنون للإنجليز احتلال مصر، وبصياغة أخري كان علي الإنجليز أن يمسكوا قرني البقرة كي يحلبها اليهود، مقابل تسخير البقرة لإدارة طواحين الإنجليز وسواقيهم قطن مصر المسخر لمصانع النسيج في مانشستر مع حصولهم أيضا علي شيء من الحليب. أما البقرة نفسها فليس لها إلا القيد والسوط، وعليها أن تسبح بحمد جزارها وتاجرها لأنه يمنحها بعض أعواد البرسيم! يقول «بلنت»: «وليس من ينتفع بمقامنا في مصر غير قليل من الموظفين والممولين الإنجليز (وأغلبهم يهود) ونفر من أصحاب المصارف والمقاولين وسماسرة الشركات». ومن حسن حظ «بلنت» أنه لم يجد نفسه متهما ب«العداء للسامية»، ربما لأنها تهمة لم تكن قد شاعت بعد، وربما أيضا لأنه كان ينتمي إلي دولة عظمي يخشي بأسها، ولم يدرك الحرب العالمية الثانية، التي خرجت منها «بريطانيا» حطاما مزينا بلافتة نصر لا معني لها. إذ المنتصر الحقيقي كان «اليهود»، الذين تخلصوا من عدوهم النازي، وأجبروا الاتحاد السوفييتي علي تغيير سياسته تجاههم، وتخلصوا من هيمنة بريطانيا أكبر الخاسرين ونفوذ الاستعمار القديم علي الشرق، ليجعلوه مسرحا لنفوذهم، وليقيموا فيه مملكة قاعدتها فلسطين، ومظلتها واشنطن إلي حين!