ربما كان كل ما أراده مؤلف النص المسرحي «درب عسكر» الراحل د. محسن مصيلحي وقت كتابته هو الرصد والتأريخ واستعراض تطور فن المسرح المصري تحديدا؛ كأنها لحظة يتأمل فيها عاشقٌ وجه محبوبه الشاب، ولكنها الآن - بعد أكثر من ربع قرن- تحولت إلي لحظة شجن وتأسّ بعد أن ترهل الوجه وهجره العشاق وكاد يستسلم للموت. الفرق بين الفن المسرحي وأي نوع من الفنون التمثيلية الأخري هو أنه فن حيّ.. من لحمٍ ودم.. لا حواجز فيه ولا اصطناع.. لا خدع ولا مونتاج، فأنت في مقعدك بالصالة عينك في عين الممثل علي خشبة المسرح.. تسمع صوت أنفاسه وتشعر بارتعاشة جسده.. هكذا بدأ فن المسرح حقيقياً وتلقائياً إلي حد الارتجال؛ منذ فن الأراجوز وعرائس يحركها الممثل بأصابع نراها ورغم ذلك نصدق الحدوتة، وخيال الظل وبابات «ابن دانيال» ثم «المحبظاتية»، ولما جاء يعقوب صنوع - أبو نضارة - بما رآه في الغرب من شكلٍ مسرحي أكثر تنظيماً وترتيباً استطاع أن يؤسس المسرح المصري الحديث بقواعده المرتبة دون أن ينال من نبضه فكان ما يمكن أن نسميها لارتجال المنظم، حيث النص المكتوب والحركة المرسومة للممثل.. يلتزم بها ويؤديها دون أن يمنعه ذلك من الإضافة والارتجال بما يلمس واقع بلاده؛ ورغم أن الرقابة والتضييق والمصادرة تمارَس علي هذا النوع من الفنون منذ بدايته مع الأراجوز إلا أن الأمر بات أكثر حدة مع المسرح المؤسَس،.. ويستكمل العرض سرده لتاريخ المسرح بذكر رواده: علي الكسار والريحاني واستيفان روستي ومحمود تيمور وغيرهم، ثم ترصد لنا المَشاهد ما فعلته الرقابة بالمسرح.. الرقابة الدينية متطرفة الفكر والرقابة السياسية والأمنية وكيف أحكمت قبضتها حول عنق المسرح فخنقته أو كادت فتحول من فنٍ نابض متجدد إلي نصوص رتيبة يؤديها ممثلون كالدمي لا يشعرون بما يفعلونه ولا يصدقون ما يقولونه، وانقسم المسرح إلي وجهين: الأول فاتر عابس يقدم المآسي والآخر ماجن مبتذل يخاطب الغرائز ويلقي النكات، ولا ينتهي العرض بنهاية النص الذي كتبه المؤلف منذ ربع قرن؛ بل قرر صنَّاعُه أن يرصدوا المشهد حتي لحظته الآنية.. المسرح التجريبي ومهرجانه، بكل ما فيه من تكلف - غالباً - ومن ادعاء فني؛ وهي الحالة التي انتابت كل أشكال الفنون والأدب عندما انسحب المبدعون الحقيقيون من الساحات تاركين المشهد للمدعين والزائفين. الحالة - حالة المسرح - مأساوية.. غير أن العرض كوميدي خفيف الظل؛ قدمه ستة من الممثلين الشباب الموهوبين بحضورٍ ووعي وخفة روح.. تميز منهم حمدي عباس بطل العرض بثقته وامتلاكه لأدواته وسرعة بديهته في الارتجال ومحاورة الجمهور؛ وكذلك أحمد عبد الجوادالذي أتقن الأداء الجسدي وتمكَّن من تعبيرات وجهه فكأنما يرسمها رسماً، وأيضاً أحمد الشناوي وسحر منصور وشهيرة وزاد عليهم محمد شحاتة بعزفه الحيّ علي العود في أغلب المشاهد ووضعه لموسيقي وألحان العرض. الملابس معبرة ومبهجة صممتها نادية المليجي بشكل بسيط برغم إتقانه.. سهَّل علي الممثلين خلعها ولبسها علي خشبة المسرح، وصمم أحمد فرج الديكور مستخدماً تفاصيل الأراجوز والعرائس والملابس المسرحية ليضعك داخل الكواليس وراء ستار فن المسرح وبين صفحات تاريخه. محمود الزيات قدم فرجة مسرحية بروح البداية في أول عمل يخرجه للمسرح المتجول بعد عودته للحياة مستخدماً كل الملكات المسرحية تجسيداً وليس مجرد سرد بين الأراجوز وخيال الظل والارتجال في شكلٍ يعشقه المسرحيون هو «العرض داخل العرض». حتي لو لم يكن النص جديداً وحتي لو كان يسخر في ألم من حال المسرح؛ إلا أنه وعروض أخري يؤكد أن للمسرح قلبا لا يزال ينبض.