يبدأ 2014 بإقرار الدستور ثم يتلوه مباشرة إجراء الانتخابات الرئاسية قبل أن ينتصف العام، الذي لن ينتهي قبل أن يعود الناخبون المصريون إلى صناديق الاقتراع لانتخاب مجلس النواب الجديد، سيتراجع تأثير قوى سياسية خلاله، وتتقلص فاعلية قوى أخرى، وأحزاب قديمة تعود متخفية تحت لافتات مختلفة، وأحزاب جديدة سوف تنشأ وأحزاب قائمة سوف تندمج، وتحالفات انتخابية تفرض على البعض جبهات جديدة سوف تعقد عراها، وبروز أدوار بعض الأحزاب واختفاء الكثير من الفاعلين خلال السنوات الثلاث الماضية، كل هذه الملامح ترسم خريطة جديدة للعمل السياسي في مصر بعد إقرار الدستور وانتخاب الرئيس والبرلمان وانتهاء الفترة الانتقالية.
منذ فترة من الزمن والخريطة السياسية المصرية تتحدد معالمها الرئيسية في أربعة تيارات رئيسية هي تيار الإسلام السياسي والتيار القومي والتيار الليبرالي والتيار اليساري، وقد استقرت تلك الخريطة بعد 30 يونيو الماضي على ثلاث كتل رئيسية:
أولها كتلة الإسلام السياسي وقد شاركت متأخرة وبدرجات متفاوتة في الحراك الثوري المواكب لثورة يناير وما بعدها، قبل أن يقودها "الإخوان" عبر مسيرة من الأخطاء والخطايا المتكررة إلى الولوج في خصومات سياسية تراكمت وتزايدت بقوة بعد نجاح مرشح الجماعة في الانتخابات الرئاسية واستعجال التنظيم الدولي في عملية فرض السيطرة على مفاصل الدولة وأخونتها، وانتهى الأمر بالجزء الأكبر من هذه الكتلة مشتتة ومحاصرة ومحظورة وفي خصومة علنية مع بقية المجتمع المصري، ولم يتبق منها غير حزب "النور السلفي" الوحيد من بين تيار الإسلام السياسي الذي يشارك بفاعلية في تحالف ما بعد 30 يونيو.
الكتلة الثانية هي التيار المدني، الذي يمثله طيف واسع من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، يدخل فيه التيار القومي والتيار اليساري، وللمرة الأولى يكون التيار الليبرالي أكثر حضورًا في مصر على مستوى الشارع ومستوى الفعل السياسي من التيارين القومي واليساري بكل تجلياتهما، وهذه الكتلة مفرقة بين أحزاب سياسية وتجمعات وجماعات متعددة، وتعتبر الكتلة الأكبر، ولكنها الأكثر تشتتا وتشرذما من بين هذه الكتل الثلاث.
الكتلة الثالثة تتمثل في ما اصطلح على وصفهم بفلول نظام مبارك يضاف إليها بعض ممن جرت تسميتهم على نطاق واسع بحزب "الكنبة" إشارة إلى هؤلاء الذين لم يشاركوا في ثورة يناير 2011 وأيدها بعضهم من البيوت وعارضها أكثرهم تحت عناوين الاستقرار والأمن والخوف من الفوضى، أكثر المحسوبين على بقايا نظام مبارك هم بالأساس رجال أعمال نافذون يضاف اليهم عناصر مؤثرة ممن اصطلح على تسميتهم بعناصر الدولة العميقة، ولهم ظهير قوي من القطاعات الشعبية التي عززوا صلتهم بها منذ أيام مبارك، كما يمتلكون وهو الأهم أدوات إعلامية قوية ومؤثرة في عدة قنوات فضائية وصحف ينفق عليها بسخاء استثنائي، وهذه الكتلة التي كانت تعتبر إبان ثورة يناير ضمن رصيد "الثورة المضادة" شاركت مشاركة فاعلة وملموسة في ثورة 30 يونيو سعيا وراء إسقاط نظام الإخوان.
هذه الكتلة التي لم يكن لها خلال العامين الماضيين تمثيل سياسي في صورة أحزاب هي الكتلة الأكثر سعيا إلى الدخول في تضاريس الخريطة السياسية الجديدة في العام 2014، وقد بدأت بالفعل في التجمع تحت لافتات جديدة وبعناوين مختلفة وتحت قيادة شخصيات بارزة من العهد السابق، أو تلك التي برزت خلال الأعوام الثلاثة الماضية ولا تحمل صفة الفلول ولكنها تحمل سياستها ونظرتها السياسية وهذا هو الأهم.
المعركة المقبلة على رسم الخريطة السياسية المصرية ستكون ضارية بين مكونات هذه الكتل الثلاث، وستتحدد أنصبة كل فريق أولا على قدرته على حشد التأييد الجماهيري حول مرشحيه وبرامجه وأحزابه، وثانيا بقدراته المالية، وثالثا بتحالفاته أو اندماجه مع الآخرين الأقرب إليه لتشكيل قوة حقيقية يحسب حسابها على الأرض.
عنوان الاندماج بدأ مع نهايات العام 2013 وسوف يستمر طوال العام الجديد، وقد أثبتت بعض الأحزاب السياسية أنها تعلمت دروس السنوات الثلاث الماضية، فبدأت تعمل على تصحيح أخطائها التي أدت إلى وصول جماعة الإخوان للحكم، كما أن طبيعة النظام الانتخابي الذي لم يتحدد بعد سوف ترسم خريطة اندماج الأحزاب من ناحية والتحالفات السياسية وربما الانتخابية من ناحية أخرى.
مواجهة جماعات وأحزاب تيار الإسلام السياسي في الانتخابات المقبلة على مدار العام ليست وحدها التي تفرض عملية الاندماج بين الأحزاب المدنية الصغيرة، فمن ناحية يعتبر اندماج هذه القوى والأحزاب مفيدا، بغض النظر عن أن يكون الاندماج موجها ضد أي طرف من أطراف اللعبة السياسية، ومن ناحية أخرى لا ينكر أحد أن العديد من هذه الأحزاب الصغيرة يعاني أولا من مشكلات داخلية ويعاني أكثرها من مشكلات في التمويل، بالإضافة إلى تشابه البرامج الذي يتسبب في حيرة الناخبين وتشتيت أصواتهم.
رغم تراجع شعبية تيار الإسلام السياسي، إلا أن التيارات «المدنية» لن تستطيع الوصول إلى الجماهير إلا عبر برامج جاذبة للناخبين، وتصميم أنشطة إنمائية تطوعية في كل المحافظات، وحشد أعضاء بمئات الألوف، وإقامة مقار لا تستثني المراكز والقرى والأماكن النائية، وكل هذا يحتاج تمويلا بالملايين، وتظهر أوراق أحد هذه الأحزاب التي فازت ببضعة مقاعد في البرلمان السابق أن الميزانية التي أنفقت على الانتخابات البرلمانية الماضية تربو على الخمسة ملايين من الجنيهات، وهي أرقام لا تستطيع أغلبية هذه الأحزاب على الوفاء بها في المعركة الانتخابية المقبلة، ما يعني أن المال سيكون هو اللاعب الأول في الانتخابات الى جانب الاعلام الذي يبقى معظمه في أيدي الكتلة الثالثة .
أيا كانت نتائج عملية اعادة رسم الخريطة السياسية المصرية في العام الجديد إلا أن أفضل خريطة سياسية لمصر هي تلك التي تستقر على رقعتها أربعة أحزاب كبيرة تعبر عن تياراتها الرئيسية الإسلامي والقومي والليبرالي واليساري، وهو أمل يبدو بعيد المنال على الأقل في العام 2014.