لما بنى محمد على باشا الكبير الدولة المصرية الحديثة لم يكن يبنى على فراغ. كانت هناك ثلاثة عناصر سبقت محمد على لبناء الدولة. الاول كان الازهر بما حفظ لنا من الوسطية المصرية الاسلامية السمحة، والثاني الشعب الثائر الذي خرج على الفرنسيين في ثورتي القاهرة الاولى والثانية، وكانت ثورته الثالثة لعزل خورشيد باشا وتولية محمد على نفسه. والعنصر الثالث كان محاولة لقائد مملوكي فذ اسمه على بك الكبير، حاول بكل ما يستطيع ان يخرج عن طوع السلطان العثماني ويعلي شأن دولة المماليك من جديد، لكنه فشل لأسباب أهمها ظاهريا الخيانة.
باطنياً وقبل ثورة الشعب وعلى الرغم من وجود منارة الازهر الشريف، كان الحال بمصر عبارة عن طرق صوفية (غارقة في الجمود) تحكم الريف لصالح المماليك (امراء السياسة)، مثل الطريقة الحصافية التى ينتمي اليها حسن البنا. والمماليك (المليشيات) بدورهم يحكمون مصر لصالح الوالي او بالأحرى السلطان العثماني (أمريكا في زماننا) الذي يجبي خير البلاد لصالح ملكه الجبري. بيد ان مصر كان لها وضع مختلف عن باقي الممالك العثمانية وكانت تعتبر أمة في حد ذاتها بسبب مقوماتها المتعددة حتى ان بعض المؤرخين يقول ان رد مصر على غزو سليم الاول سنة 1517 جاء عبر جيش ابراهيم باشا سنة 1832 و 1839.
لاحظ ان الشعب المصري الذي ثار وطرد الوالي العثماني لم يأتي بحاكم مصري. وكأنه امر غير متصور! ولكن أتي بمحمد على. ومنذ ذلك الحين بداء الباشا في بناء مصر مستغلا الازهر للإشراف على البعثات العلمية بدون ان يكون له نصيب من التحديث، لكن الطهطاوي الذي كان مجرد مشرف على الرحلة كان له همه جعلته رائدا التنوير (حاول ان تذكر أسم واحد آخر من بعثات محمد على). بيد ان محمد على أدرك انه لن يستطيع الأنفراد بحكم مصر الا بعد تحيد الأزهر، والخلاص من المماليك، وترويض الشعب الثائر. وهو بالضبط ما فعله الباشا الكبير في أول ستة أعوام من حكمه المديد.
ولما أستشعر الباشا انه جهز القاعدة السليمة لبناء أول أمبراطورية توسعية في التاريخ المصري (ما قبلها كان توسع من أجل الدفاع) أدرك ان عليه تنظيم شئون البلد الداخلية. وانا لا أتكلم عن نظام الأحتكار ولكن عن نظرة محمد على للشعب. وانا مرة أخرى لا أتكلم عن نظام التجنيد والبعثات الخ، ولكن اتكلم عن ما يسمي وثيقة دستورية أصدرها الباشا آواخر عشرينات القرن ال19 وأدخل عليها بعض التعديلات في 1829. لاحظ التاريخ، ثلاثة أعوام بالضبط قبل ان يصل جيش أبراهيم باشا الى مشارف الباب العالي.
فهل كان في اعلان محمد على الدستورى اي عقد أجتماعي بين أهل البلد؟ هل كان يمكن للمصريين؟ والأجابة هي النفي القاطع. كل ما هنالك ان الباشا الذي لم يكن يقيم للمصريين وزن، أراد ان ينظم العلاقة بينه وبين كبار الأعيان (الذين صنعهم الباشا بنفسه) من أجل ان تعد الدولة لحرب العثمانلية. فكانت وثيقتة الدستورية مرحلة في ترتيب الأوضاع داخل بيت الحكم وطبقة الأعيان (الأرنؤوط) وغيرهم من كبار التجار. اما الشعب فكان مجرد أداة.. للحديث بقية.