عرضنا في مقال الأسبوع الماضي جانبا من توجهات النهضة في الأدبيات المصرية. وفي هذا المقال نواصل الحديث. يستكمل الرافعي, واصفا موقف ابراهيم باشا: وهو في صلاته مع أهل البلاد يستخدم اللغة العربية ويعد نفسه عربيا, ولذلك لا ينفك يطعن في الأتراك, وقد لاحظ عليه ذلك أحد جنوده وخاطبه بتلك الحرية التي كان يشجع رجاله عليها, وسأله كيف يطعن في الأتراك وهو منهم, فأجابه إبراهيم باشا علي الفور أنا لست تركيا, فإني جئت مصر صبيا, ومنذ ذلك الحين قد مصرتني شمسها وغيرت دمي وجعلته دما عربيا. في النتيجة, تخيل أن مصر كانت منذ نحو ثلثمائة سنة قد ضمت لحكم محمد علي السودان وشبه الجزيرة العربية وبلاد الشام كلها( سوريا الكبري شاملة فلسطين ولبنان بالتسميات الحالية), وأوشكت أن تنجح في اجتياح السلطنة العثمانية نفسها في عقر دارها مرتين. وفي مجال الفن الإنتاجي والتصنيع كانت مصر, في العام1810, تصنع السفن الحربية العصرية في وقتها باستخدام فن إنتاجي متقدم لم يكن العالم قد اعتاده حينها, ونقصد سبق التصنيعPrefabrication. فكانت السفن الحربية المصرية تصنع علي أجزاء, ثم تنقل القطع علي ظهور الجمال إلي السويس لتجمع هناك وتنزل إلي البحر تحضيرا للحرب علي الوهابيين في نجد. فكيف تأتي لهذا الرجل, الذي بدأ جنديا بسيطا ولم يتحصل علي أي قدر من التعليم النظامي, أن يقود هذه النهضة الكبري؟ بالإضافة إلي الإصرار ومضاء العزيمة امتلك هذا الرجل العظيم إيمانا راسخا بالعلم والمعرفة وكان يحصل عليها أين كانت, فاستقدم خيرة الخبراء والمعاونين من بلاد الغرب المتقدمة وقتها, وأرسل لها البعوث من أنحاء مصر كافة, وكان يتابع البعثات شخصيا فيرسل لهم الرسائل ويوالي شئونهم باستمرار. وهكذا أنشأ قدرة ذاتية علي اكتساب المعرفة في مصر, سواء من معاقلها بالابتعاث أو بالترجمة والتعريب والنهوض بالتعليم في مصر. وقد شملت بعثاته مصريين من أرجاء البلاد كافة. فتفاوت مسقط رأس بعض الأعلام الذين برزوا من بعثاته إلي أوروبا بين بضعة أجانب بالميلاد مثل كلوت بك رائد تعليم الطب في مصر وأول ناظر لمدرسة الطب المصرية( جرينوبل, فرنسا) والكثرة من المصريين من بلدان شتي تضم عينة منها: طهطا, بلتان, سبك التلات, سنهور, بيت عجيل, زاوية البقلي, نبروه, ودير الجنادلة, علي سبيل المثال. وقد كانت لمصر تسع بعثات ضخمة لفرنسا وانجلترا(1847,1844,1832,1829,1827,1826). وشملت مجالات البعثات قطاعا عريضا من العلوم الدقيقة والإنسانية, بتركيز علي العلوم الحربية. تميزت البعثة الأولي ببروز شخصية العلم الجهبذ رفاعة رافع الطهطاوي زعيم نهضة العلم والأدب والترجمة والذي بدأ تعليمه في الأزهر ورافق البعثة في البداية كواعظ للمبعوثين, ولكنه تعلم الفرنسية بحهده الذاتي وبرز بعض أعضاء البعثة في اكتساب المعرفة العلمية حتي أصبح قادرا علي التعامل الندي في المجتمع العلمي الفرنسي, ومثلت مؤلفاته وتراجمه بداية مهمة للنهضة العلمية. وبرز كذلك علي مبارك باشا أبو التعليم في عصر اسماعيل وتوفيق, ومنشيء الأثر العلمي العظيم الخطط التوفيقية. واهتم محمد علي بشكل خاص بالترجمة والتعريب من نواتج العلم والمعرفة في البلدان الأوروبية المتقدمة في عصره. ومن مآثره في هذا المجال أنه كان يستقبل العائدين من البعثات ويقدم لكل منهم كتابا من الأمهات في الفرع الذي تخصص فيه في البعثة لينقله إلي العربية, وفي حالة البعثة الأولي حبسهم جميعا إلي أن ينتهوا من الترجمة المعهود إليهم بها. وقد تميز عزيز مصر ببصيرة نافذة فعندما أقدم علي نشر التعليم في مصر بدأ بالتعليم العالي, لاسيما الهندسة( مدرسة المهندسخانة ببولاق في1834) والطب( مدرسة الطب في1827) والصيدلة وبعد ذلك أنشا مدرسة الترجمة( الألسن) بالأزبكية(1836), وذلك قبل نشر التعليم الأولي. صحيح أن هاجسه الأول كان خدمة مشروعه العسكري وبناء جيشه القوي, ولكن الاهتمام بالتعليم العالي خاصة في العلوم الطبيعية والدقيقة يعد أحد أهم مداخل النهضة القائمة علي اكتساب المعرفة في عصرنا الحالي. كما أنشأ محمد علي مطبعة بولاق(1816) التي كانت مكونا مهما في النهضة العلمية من خلال نشر الكتب المترجمة والمؤلفة. ومما يدل علي شديد عنايته بها انه اختار للقيام بتصحيح مطبوعاتها طائفة من علماء الأزهر, والتصحيح فن دقيق ينبني عليه إخراج الكتب والمؤلفات صحيحة خالية من الأغلاط المطبعية التي تشوهها( الرافعي,569). ما يدل علي اهتمام بالغ بصحة اللغة العربية في الكتب المنشورة. وفي مطبعة بولاق هذه, نواة المطابع الأميرية فيما بعد, كانت تطبع الوقائع المصرية, الجريدة الرسمية للحكومة التي صدر أول عدد منها في.1828 قارن هذا بحكام اليوم الذين لا يهتمون إلا بالمال, ولا يخجلون من اقتراضه واستجدائه بينما يتشدقون بمشروع للنهضة خاو من أي مضمون علمي أو معرفي! ومن الضروري إلقاء نظرة علي جيش مصر وأسطولها في عهد محمد علي. فهذه القوة العسكرية التي كان يعتد بها في عصرها, كانت عماد قوة مصر وقائدها في المعترك الإقليمي والدولي, وصانعة فتوحاته وجالبة انتصاراته في غزواته ومعاركه. وبداية يجب ذكر أن محمد علي فشل في البداية في تكوين جيش منضبط من فلول الجند الأجانب, الأرناؤوط في الأغلب, الذين كانت تعج بهم مصر في بداية عهده, ولم يفلح في إنشاء جيش نظامي عصري إلا بالاعتماد علي المصريين كلية. وقد تعدي تعداد الجيش المصري في العام235,1839 ألف جندي وتكون الأسطول من32 قطعة بلغ عدد رجالها16 ألفا وقارب عدد مدافعها20 ألفا. ولتقدير مغزي هذه الأرقام ينبغي أن نتذكر أن عدد سكان مصرفي العام1823 كان يقدر بحوالي مليونين ونصف مليون نسمة فقط. لاريب في أن جل المصريين, إن لم يكن كلهم, لا يقبل أن يحكم البلاد أجنبي دخيل. ولكن يبقي التساؤل: أيهما أصلح, أجنبي لا ينتمي للبلد وترابها ولكن يرقي بالبلد إلي مصاف الدول المتقدمة, أم ابن للبلد قد يعلم دخائل نفوس أهلها ولكن ينحط بالبلاد ويسوم أهلها عذاب الظلم والاستبداد وينحدر بها إلي أسفل سافلين؟ وبدون تزكية الأول, أظن أن الثاني أسوأ وأضل سبيلا. فعلي الرغم من أصله الأجنبي, يجدر أن تذكر, وفق الرافعي, أن محمد علي تولي الحكم بإرادة زعماء الشعب جزءا من الهيئة الاجتماعية المصرية, وأنه قد تمصر واستعرب, فأسس دولة مصرية, وجيشا مصريا, وأسطولا مصريا, وثقافة مصرية عربية, واندمجت شخصيته في شخصية مصر, فأصبح مصريا حكما وسياسة وعملا... واستمد محمد علي قوته من الجيوش المصرية, ونال انتصاراته الحربية باسم مصر, ولحساب مصر وعظمتها, وانقطعت الصلات القديمة التي كانت تجعل ولي الأمر في مصر نائبا عن سلطان تركيا, وصار لمصر شخصية مستقلة أظهرها محمد علي واندمج فيها... وهذه الحقيقة تنطبق كذلك علي أعوانه ممن كانوا في الأصل من أصل غير مصري, فكثير منهم كانوا من سلالة تركية أو مقدونية, ولكن الحروب التي اشتركوا فيها تحت لواء محمد علي وابراهيم قد فصلتهم عن موطنهم الأصلي وأدمجتهم في مجموعة الشعب المصري فصارت وطنا خالدا لهم ولأسراتهم وذراريهم, حاربوا من أجلها, وبذلوا جهودهم وأرواحهم ودماءهم في سبيل رفعتها ومجدها( الرافعي,640-641). المزيد من مقالات د . نادر فرجانى