العبور كان نصرًا فريدًا فى تاريخ الحروب أعاد به الجيش الكرامة والثقة إلى المصريين الذين يكرهون السادات سياسيًّا لا يريدون منحه شرف اتخاذ قرار الحرب
بينما تحتفل مصر بمرور أربعين عاما على حرب العبور التى حققت أعظم انتصاراتها العسكرية منذ عصر محمد على، يظل دور ومكانة صاحب قرار تلك الحرب ملتبسا لدى الكثير من المصريين الذين اختلفوا مع موقف السادات التالى للحرب، والذى أدى إلى اتفاقية السلام مع إسرائيل، وفى نفس الوقت يجد الجيش المصرى نفسه فى خضم حرب أخرى هى حربه ضد الإرهاب ليس فقط فى سيناء، ولكن فى أنحاء مختلفة من البلاد، بعد الخطوة الهائلة التى اتخذها الفريق عبد الفتاح السيسى مساندة للملايين الثلاثين التى خرجت ضد حكم الإخوان، فى هذه الظروف الصعبة، من المفيد أن لا تقتصر ذكرى انتصار العبور على الاحتفالات فقط، رغم أهمية ذلك، ولكن أن تتضمن تقييما موضوعيا لدور السادات بطل قرارى الحرب والسلام، وذلك حتى يمكننا استخلاص الدروس الحقيقية من تلك التجربة ضمانا لأداء أفضل فى المستقبل.
بطل الحرب 1
من المؤسف حقا أن معظم الذين يختلفون مع السادات سياسيا، بسبب معاهدة كامب ديفيد على الأخص، يتمادون فى خصومتهم معه إلى حد إبخاسه حقه فى التقدير والإشادة لاتخاذه قرار بدء حرب العبور وإدارته العبقرية هو وفريقه العسكرى لهذه الحرب منذ سنوات الإعداد لها وحتى اكتمالها فى نصر عسكرى مذهل أصبحت تدرسه الأكاديميات العسكرية فى العالم كله.
لقد ورث السادات تركة بالغة الثقل حين تسلم السلطة بعد رحيل عبد الناصر فى سبتمبر 1970، ولم يكن قد مر على أكبر هزيمة مصرية وعربية سوى نحو ثلاث سنوات. وقد كان يمكن لغيره أن تكون كارثة الهزيمة بأبعادها المروعة قد زعزعت ثقته فى نفسه بالكامل وثقته فى جيشه وفى قدرات شعبه. ولكن هذا لم يحدث، واستمر السادات فى خطة إعادة تسليح الجيش بأحدث الأسلحة مع بناء مقاتل جديد تماما تحت قيادة تعتمد أساليب الحرب الحديثة وليس أسلوب القرية المصرية البسيطة الذى رأيناه فى رد عبد الحكيم عامر على سؤال عبد الناصر له عن مدى استعداد الجيش قبل حرب 67 بقوله: «رقبتى يا ريس!».
وقد اتخذ السادات قرار الحرب ضد العدو الذى أنزل بمصر هزيمة مريرة وليست لديه تأكيدات بأن هذه الحرب لن تنتهى كما انتهت سابقتها. كان الأمر إذن يتطلب شجاعة تكاد أن تكون فوق قدرة البشر، مع التزام صارم بكل أركان إدارة الصراع عسكريا وسياسيا ونفسيا، وعدم ترك الأمور إلى أحوالها السابقة البائسة، وكان يفعل هذا وهو يتعرض لضغوط شعبية هائلة من كل قطاعات الشعب المصرى الذى كان قد تعب من سنوات تعذيبه لنفسه وتبكيته لها، بل وسخريته الجارحة منها -من نفسه- بسب فداحة هزيمته السابقة، كما كانت هذه القطاعات قد فاض بها الكيل من طول حالة اللا سلم واللا حرب، ومن تكرار وعود السادات بأن كل عام هو «عام الحسم» كما كان يعد فى خطبه دون أن يحدث شىء. وكان على السادات وقادة جيش مصر العمل فى صمت مؤلم تحت هذه الضغوط النفسية الهائلة، فالطلبة فى الشوارع والجامعات يتظاهرون بشكل يكاد أن لا ينقطع، والكتاب والمثقفون يوقعون على العرائض مطالبين بتحرير أرض مصر. وفى هذا الجو النفسى بالغ القسوة والتوتر استطاع السادات أن يدير حركة الإعداد المحكم لساعة الصفر، مع كل ما تتطلبه من عنصر المفاجأة، دون أن يهرول فيتهور وينزلق إلى هزيمة جديدة ستكون بلا شك قاتلة، أو يتأخر أكثر مما يجب فيفقد حماس وعزيمة جنوده وشعبه، وفى النهاية يمنح السادات إشارة بدء العمليات فتقوم القوات المصرية المسلحة بأعظم عملية عبور لحاجز مائى وترابى -هو خط برليف- فى التاريخ، وتحقق نصر جاء فائقا لجميع التوقعات بل والأحلام.
الذين يكرهون السادات سياسيا لا يريدون منحه شرف اتخاذ قرار الحرب ولا إكليل الغار الذى يستحقه بجدارة. بل يتهمه بعضهم بأنه أضاع النصر وفرط فيه وأهدره، ويلومه البعض لأنه لم يأمر الجيش بأن يستمر فى تقدمه فى ما بعد الممرات التى تحصن فيها، متجاهلين أنه لو فعل لحرم الجيش من حماية صواريخ سام 6 و7 التى كانت تصطاد الطائرات الإسرائيلية وتمنعها من الاشتراك فى المعركة، ولو استمع السادات إليهم لتحول «النصر الباهر» إلى «هزيمة مروعة» لو حدثت لما كان للنفسية المصرية أن تقوم بعدها لعدة أجيال قادمة.
لقد استطاع السادات أن يبدأ الحرب فى الوقت المناسب بالضبط، وأن يوقفها فى الوقت المناسب بالضبط، بعد أن قامت إدارة الرئيس نيكسون بإعادة إمداد الجيش الاسرائيلى بالدبابات والمدرعات عن طريق جسر جوى مستمر بلا حدود كانت تتدفق عبره المعدات الحربية إلى سيناء مباشرة -وليس إلى إسرائيل- للاشتراك الفورى فى المعارك، وهكذا يتضح لكل محلل منصف أن اتهام السادات بالتخاذل لعدم الاستمرار فى التوغل فى سيناء هو اتهام باطل بل وجاهل. لقد أثبت السادات أن له من مرونة الفكر ما مكنه من سرعة التعلم من أخطاء الماضى القريب، فقام بتجهيز جيش على أحدث الأسس العسكرية، وأدار حربا يعرف أنها ليست هدفا فى حد ذاتها، وإنما هى مجرد وسيلة لتحقيق الهدف الأبعد وهو تحرير سيناء. وكان لانضباطه العقلى والعاطفى وعدم اندفاعه بلا حساب الفضل فى التوقف فى اللحظة المناسبة للحفاظ على النصر رافعا قامة مصر جيشا وشعبا وقيادة.
بطل السلام
2
ما إن صدر قرار وقف إطلاق النار فى حرب أكتوبر -والذى خرقته إسرائيل باستمرارها فى توسيع الثغرة لمدة يومين بعد ذلك بمؤامرة مع هنرى كسنجر- حتى بدأ السادات فى مشوار المفاوضات المضنية مع أكثر الشخصيات السياسية دهاء وهو كسنجر. وقد بدا واضحا بمرور الوقت أن إسرائيل لن تنسحب من سيناء إلا باتفاقية سلام. وكان من حسن الأقدار أن تغيرت الإدارة الأمريكية بعد خروج نكسون وانتهاء فترة رئاسة نائبه فورد، وجاء جيمى كارتر وهو رئيس أمريكى يتحلى بقدر عال من الأخلاق والمصداقية، واستطاع بذلك أن يمارس ضغوطا ضخمة على إسرائيل لقبول الانسحاب من سيناء، وفى اعتقادى أنه لو كان بالبيت الأبيض فى ذلك الوقت رئيس آخر خلاف كارتر لما تمت معاهدة السلام ولكانت إسرائيل لا تزال فى سيناء كما هى الآن فى الجولان وفى الضفة الغربية.
وقد هاجمت معظم الدول العربية الرئيس المصرى لقراره زيارة إسرائيل، وقاطعوا مصر لتوقيعها معاهدة السلام، واتهموا مصر والسادات بتهمة «الخيانة» الجاهزة دائما. ولكن هذا الاتهام لا يصمد أمام التحليل الدقيق ولا أمام واقع الحال، ورغم إيمانى الشديد بعدالة ومشروعية القضية الفلسطينية، فإننى أختلف مع الذين رأوا فى موقف السادات تفريطا أو خيانة أو أنانية.
فقد أصر السادات على إشراك الفلسطينيين معه فى المفاوضات، ولكن الفلسطينيين هم الذين رفضوا الحضور. وما زلت أذكر مشهد العلم الفلسطينى مرفوعا إلى جوار العلم المصرى على فندق مينا هاوس بسفح الهرم، والذى كانت ستعقد فيه المفاوضات مع الإسرائيليين، ولكن ظل مقعد فلسطين شاغرا لعدم حضورهم. ولو كان الفلسطينيون والسوريون ومعهم بقية الدول العربية قد وقفوا صفا واحدا بجوار مصر بدلا من مقاطعتهم لها لكان الموقف التفاوضى العربى قد ظهر على أعلى مظاهر القوة، خصوصا أن سلاح النفط كان فاعلا لا يزال فى الحسبان، ولكان من الممكن للعرب مجتمعين أن يحققوا إنجازات بشروط أفضل بكثير مما يعرضونه هم على إسرائيل فترفضه اليوم، ولكان من الأسهل بكثير عودة الضفة الغربية التى لم يكن قد أقيمت عليهما عشرات المستوطنات الضخمة كما هو الحال اليوم.
لقد أثبت السادات أنه كان يملك نظرة بالغة البعد، إذ استطاع أن يستشرف المستقبل بحدسه وذكائه الحاد، ورأى فيه انهيار الاتحاد السوفيتى قبل وقوع ذلك بربع قرن (وكان قد طرد الخبراء الروس من مصر قبل حرب العبور). كما استطاع أن يرى تصاعد قوة الولاياتالمتحدة إلى حد الهيمنة الأحادية على العالم، وعرف أنه عن طريقها يمكن أن يحصل على أفضل ما يمكن الحصول عليه فراح يغازلها بدهاء الفلاح المصرى الأصيل، وهو يطل عليها من شاشات التليفزيون الأمريكى بوجهه الأسمر اللامع وحديثه الساحر عن السلام وآخر الحروب، ومعه زوجته فى صورة الليدى اللبقة العصرية المستنيرة، فكان أن خلب لب رجال وسيدات الإعلام الأمريكى مثل باربارة وولتر ووالتر كرولكايت، كما دخل إلى قلوب الشعب الأمريكى الذى يحترم المنتصر، خصوصا عندما يبدأ فى الحديث عن السلام بعد أن يكون قد أثبت شجاعته فى الحرب.
لقد استطاع السادات أن يجمع كل ما فى تاريخه الشخصى من تجارب ومهارات من القدرة على المغامرة والشجاعة ومباغتة الآخرين والتمثيل (لعب بعض الأدوار التمثيلية فى شبابه قبل الثورة) إلى قدرته على سحر الآخرين بحديثه والتأثير عليهم واستمالتهم إلى جانبه، ووضعها كلها فى تركيز شديد فى خدمة هدفه الذى لم يحول بصره عنه، وهو استعادة سيناء من أكثر المستعمرين التصاقا بالأرض ومكرا فى المفاوضة والمماطلة وهى إسرائيل، وذلك عن طريق الاستحواذ على قلب أمريكا عن طريق التفنن فى مراودتها بسحره الشخصى الخاص ولا شىء غيره وقد كان له ما أراد. لقد أثبتت بقية الدول العربية التى قاطعت مصر وهاجمت السادات أنها هى المتخلفة عن العصر التى لم تفهم لغة الحاضر المختلف، ولا استطاعت استشراق المستقبل وتخيل أبعاده ومستجداته، والدليل أنها بعد السادات بربع قرن راحت تفعل ما سبقها السادات بفعله بتوقيع معاهدات السلام مع إسرائيل (الأردن) أو تقديم مشروع للسلام والاعتراف بإسرائيل، كما فعلت كل الدول العربية بموافقتها على المبادرة السعودية منذ سنوات والتى لا تعيرها إسرائيل الآن أى اعتبار فيا لها من مأساة حقا!
لم تفهم الدول العربية أنها كانت فى أقوى أحوالها بعد انتهاء حرب العبور مباشرة، وأن ذلك كان الوقت المناسب بالضبط للتفاوض مع إسرائيل من موقع القوة المنتصرة. أهدروا هذه الفرصة التى لا تأتى سوى مرة واحدة فى التاريخ، بينما قفز عليها السادات واقتنصها بيديه، لهذا يستحق أن يوصف بأنه بطل السلام، كما كان هو بطل الحرب.
السادات والإخوان 3
هذه هى دروس عبقرية التحرير التى ضربها السادات لنا بغزوته الحربية وغزوته السلمية بعدها، ودوره ومكانته فى تاريخ مصر الحديث باعتباره بطل الحرب والسلام معا، وهو إنجاز لا يقدر عليه سوى نوع فريد ونادر من الزعماء السياسيين فى العالم كان السادات بينهم بالتأكيد، ولكن بينما تخوض مصر شعبا وجيشا حربا ضارية اليوم ضد الإرهاب الصادر أساسا عن جماعة الإخوان المسلمين وما تفرخ عنها من عصابات إرهابية أخرى، لا بد لنا أن نذكر أن السادات كان المسؤول عن إخراج الإخوان من سجونهم وتمكينهم من مفاصل الدولة والمجتمع فى مصر فى السبعينيات، فى محاولة بائسة منه للتصدى للناصريين واليساريين، فعلى السادات أن يتحمل المسؤولية الكاملة عن اغتيال النهضة الصناعية والاجتماعية والثقافية التى شهدتها مصر فى الستينيات، وقد تسلمها وهى فى أوج إبداعاتها -رغم هزيمة 67 بكل مراراتها- فإذا به يجهز عليها فى فعل اغتيال بارد متعمد أعطى هو قرار تنفيذه وأشرف عليه؛ اغتيال تدريجى ولكن متسارع لكل مظاهر النهضة الثقافية الفكرية الاجتماعية الإنسانية الفنية الإبداعية، والتى قامت بتنفيذه جماعات التطرف الإسلامى تحت سمع السادات وبصره وبتشجيعه ومباركته، حتى أدت فى النهاية إلى اغتياله هو شخصيا.
وقد فشل مبارك بعد ذلك فى تقديم مشروع قومى نهضوى، كما فشل فى تقديم فكر مستنير قوى يقف أمام الفكر الرجعى للإخوان وتيار الدجل الدينى بشكل عام، وترك الأمر كله لقيادة أمن الدولة تعالجه أمنيا فقط دون أى معالجة اجتماعية أو فكرية أو دينية، فكان أن تسلط الإخوان وجماعاتهم الموازية على الشارع والمجتمع المصرى بشكل كامل، فقاموا بعملية غسيل أفكار، ولكن بماء آسن قذر، أدت فى النهاية إلى تصويت ثلاثة أرباع الناخبين لتيار الدجل الدينى بعد ثورة 25 يناير فى انتخابات مجلس الشعب، ثم إلى صعود محمد مرسى إلى كرسى رئاسة الجمهورية، لكى يصل فيه حال مصر بعد عام واحد من حكمه وحكم الإخوان من خلفه إلى أسوأ حالات انحدارها المستمر منذ ثلث قرن، مما دفع بالشعب المصرى المتوثب إلى الثورة مرة أخرى، فقام الجيش بمساندته وعزل مرسى تمهيدا لمحاكمته.
ملحمة الشعب والجيش
سواء فى انتصار العبور الباهر على إسرائيل عدو مصر التقليدى، أو فى ثورة 30 يونيو ومساندة الجيش لها ضد الإخوان العدو القديم الجديد المخادع الخسيس، لأنه يضرب من الداخل وفى الداخل، نجد أن علاقة الشعب المصرى بجيشه قد وصلت فى الحالتين إلى درجة عالية من التلاحم والتقدير، بل والهيام، وهى مشاعر مبررة تماما فى الحالتين، فالعبور كان نصرا فريدا فى تاريخ الحروب فى أى مكان، أعاد به الجيش المصرى إلى مصر وشعبها كرامتهم وثقتهم وحيويتهم، كما كان إقدام الجيش المصرى بقيادة الفريق السيسى على عزل مرسى، تحقيقا لرغبة الأغلبية الساحقة من المصريين هى خطوة أخرى يقوم بها جيش مصر نحو تعزيز مكانته القوية البهية فى قلوب الشعب المصرى، ولذلك يجىء الاحتفال الأربعينى بنصر أكتوبر فى حالة من الانصهار والتوحد المثالى بين شعب مصر وجيشها، وهى حالة كلما تحققت فى التاريخ المصرى، قامت بمصر بعدها بسنوات قليلة بأعظم الإنجازات، وهو ما ينعش آمال كل مصرى مخلص اليوم.