أنتج فيلم (البرئ) لمخرجه المرحوم عاطف الطيب عام 1986، وسُمِح بعرضه ناقصا بعض مشاهده عام 2005، أي بعد تسعة عشر عاما من إنتاجه، وكان ذلك لما يحتويه الفيلم من صورة شديدة الواقعية، شديدة الإيلام، عميقة النفاذ إلى الضمير الحيّ.. يروي الفيلم – لمن لم يره – قصة أحمد سبع الليل القروي الأمّي، الذي جُنِد في قوات الأمن المركزي، ورُحِّل إلى أحد المعتقلات في وسط الصحراء، وهناك قيل له ولزملائه الذين يتمتعون بنفس العقلية البسيطة البريئة، أن من يأتون معتقلين إلى هذا السجن هم أعداء الوطن، ويجب التعامل معهم بعنف شديد يتلاءم مع جريمتهم الشنعاء؛ عداء الوطن، واستوعب سبع الليل كما استوعب زملاؤه الأوامر الصارمة الصادرة عن قائد السجن العقيد توفيق شركس ونوابه، بإهانة وضرب وتعذيب السجناء كلما سنحت الفرصة لذلك، بغض النظر عن شخصيات من يضربون ويعذبون أو حتى يقتلون، فهم بذلك يعاقبون وينتقمون من أعداء الوطن، وعندما عاد سبع الليل إلى بلدته وأمه الفقيرة وأخيه المتخلف؛ أخذ يروي لأقرانه تفاصيل الحرب التي يخوضها ضد أعداء الوطن، بينما هؤلاء الأقران لا يشعرون بشئ، ولا يدركون أهمية العمل الجليل الذي يقوم به هو وزملاؤه ! هذه المقدمة عن فيلم (البرئ) الذي كتب قصته وحيد حامد، أسوقها لتستحضر معي المشهد الآتي: (سبع الليل يحطم رأس رشاد عويس الكاتب السياسي المعارض أثناء محاولته الهرب من المعتقل؛ بينما الضابط توفيق شركس واقف يتفرج عليه مبتسما ابتسامة التشفي والانتصار، حين وجد الجندي يقوم بمهمته على أحسن وجه وهو يصرخ في وجه القتيل: يا عدو الوطن يا كافر.. نفس المشهد حدث في ميدان التحرير منذ عام ونصف، ولكن ليس تمثيلا لمشهد في فيلم؛ وإنما أمام الكاميرا التي صورت محاولة الأمن فض اعتصام ميدان التحرير بالقوة، الجنود يضربون المتظاهرين بمنتهى العنف، وأدخنة الغاز المسيل للدموع تملأ هواء الميدان، وجندي الأمن المركزي ممسكٌ بعصاه الغليظة، ويمر بجثة شاب ملقاة على أرض الميدان، فيمسك العصا بيده الأخرى، ويلتقط ذراع جثة الشاب ويجرها على الأرض حتى يلقيها بين أكوام القمامة بجوار سور ميدان التحرير الحديدي، ويعود إلى الميدان علّه يقتل عدوا آخر من أعداء الوطن. نفس المشهد تكرر أمام دار الحرس الجمهوري أول رمضان وقتل توفيق شركس وجنوده سباع الليل أكثر من سبعين مصريا، وأصابوا المئات، ثم كانت مذبحة المنصّة التي قتل فيها شركس وسباعُه أكثر من مائة مصري، وجرحوا وأصابوا الآلاف، وفي النهضة وفي الإسكندرية، وفي ما عداهما من أماكن التجمهر والتظاهر والاعتصام.
وعدنا الآن لنتوقع حدوثها مرة أخرى، فتوفيق شركس أعلنت مصادره عن نيته فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة، باستخدام المصفحات والقنابل المسيّلة للدموع، وسيُلبَس أحمد سبع الليل درعاً واقية من الرصاص، ويقترح المراقبون والصحفيون المؤيدون للعنف قطع الكهرباء عن الميدان؛ وآخرون يحبّذون قطع إمدادات الطعام والمياه، فإذا جاع المعتصمون وظمأوا خرجوا من الميدان، فلا يُسمح لهم بالعودة، ويطالب آخرون بسحق الاعتصامات واستخدام القوة القاتلة ضد المعتصمين، لأن القيادة (السياسية) اتخذت قرارا بفض الاعتصام وننتهي؛ سينتهون فعلا إن اتخذوا هذا القرار! المهم أن شركس ومؤيدوه يفكرون ويخططون كأنهم يتعاملون مع عدو في معركة في سيناء أو على شاطئ القناة، وليس مع معتصمين غير راضين عما يحدث في بلادهم، ونسي الجميع أن الداخلية هي نفسها التي تعاملت مع معتصمي التحرير أيام ثورة يناير، فقتلت منه ثوار مصر ألفاً، وهي نفسها التي قمعت الشعب المصري ثلاثين عاما قبلها..
وأرجوك عزيزي الآن أن تتخيل الضابط توفيق شركس، يقف في شرفة أحد المباني المطلة على الميدان، وينظر إلى جنوده وهم يقتلون المتظاهرين ويلقون بالجثث في الزبالة؛ وفي عينيه نظرة التشفي والشعور بالانتصار على أعداء الوطن؛ في ماذا عساه فكر ساعتها ؟ لعله فكر في هدية عيد ميلاد ابنته ذلك المساء، أو خطر على باله السفر بعد النصر على المتظاهرين وفقأ العديد من عيونهم؛ إلى العين السخنة أو إلى الجونة ليستجم !
سبع الليل جندي أُمّي يجهل طبائع الأمور، لا يعرف الفرق بين الثورة وماكينة الريّ، ويتعامل مع المتظاهرين على أنهم أعداء الوطن، وتوفيق شركس ضابط شرطة مضطرب الشخصية، يتلذذ بتعذيب الضحايا والمسجونين، ذو شخصية سادية مريضة، وهذا الضابط المريض ينقل ساديته إلى جنوده المستعدين لتقبل أي تعليمات من قائدهم على أنها قرآن حياتهم، فهو يعاملهم كأنهم حيوانات سُخِّرت له ولخدمته، فيسبهم بأقذع الشتائم وأحطّ الألفاظ وأوسخ الأوصاف لهم ولأمهاتهم وآبائهم وأحيائهم وميتيهم وأديانهم، ويخرجون من مركز التدريب وقد فقدوا أي صلة لهم بكرامة الإنسان أو عزة النفس أو قيمتها، ولا يبقى لهم في ذواتهم إلا الإهانة والإحساس بالدونية والحقارة، وتخرج هذه الأحاسيس الكامنة منهم حين يمسكون عصيهم وبنادقهم، ويأمرهم سادتهم بالنيل من أعداء الوطن، فيعملون فيهم ضربا وإصابة وتقتيلا.
إن كلا الشخصيتين يجب أن يزال من جهاز الأمن في مصر، لأن وجودهما يرتبط ارتباطا وثيقا بالنظام البائد، والعقيد توفيق شركس أثبت لرؤسائه كفاءة نادرة، استحق عليها أن ينال رتبة اللواء، ويتقاضى مرتبه بمئات الآلاف، وهو لا يزال في موقعه يتقاضى نفس المخصصات، ويمارس نفس الشذوذ ونفس السادية مع من يقع تحت يده، سواء كان من المعارضين للنظام، أو من الضباط الصغار الذين يربيهم على ما شبّ هو وشابَ عليه، فيبرمجون عساكرهم على طريقتهم الشريرة الشاذة، التي جعلت الجندي يلقي بجثة المتظاهر في الزبالة، وجعلت ضباطا يهوون فقأ العيون، وآخرون يحترفون كل فنون التعذيب، ويعتبرون أنفسهم أسياد الشعب يدوسون بأحذيتهم رقاب أبنائه، وينتهكون آدمية من يقع تحت أيديهم منه.
أحد أخطاء الدكتور مرسي الفادحة أنه لم يتخلص من كل توفيق شركس في وزارة الداخلية، وأنه لم يعلن أول عهده عن البدء في تنفيذ خطة قومية لتعليم أحمد سبع الليل.. واسلمي يا مصر.