إذا كان محمود الكردوسي، قد كتب قبيل إسقاط المخلوع الثاني، محمد مرسي بأيام، في مقال مثير للغثيان، تحت عنوان: "إحنا آسفين يا سيسي" ما نصه، أنه يرى المصريين شعبًا، "يخاف ما يختشي"، ولايستحق الحرية، فهذا رأيه، ولعله ينفضُ عن هذا الشعب، كونه فظًا غليظ القلب، فيهاجر، إلى هولندا، مثلا، فهناك الحياة وادعة، والمراعي خصبة، والحسناوات يشرحن الصدور. وإذا كان قد استصرخ، في المقال ذاته، القوات المسلحة، أن تحكم البلاد والعباد، بالحديد والنار، وتقطع لسان "كل كلب" يهتف بسقوط حكم العسكر، فهذا كلام قد يُسوّغ –لايستساغ- بأن الرجل، قد بلغ من الحنق، على حكم الأهل والعشيرة، مبلغًا جعله يهذي كالمحموم، فخانته العبارة، وأعجزه البيان، فإذا بلاغته المعهودة، ومفرداته الشيقة، تتسرب من بين أنامله، كقطرات ماء تغور، في الرمال.
لعله ابتغى أن يقول: إن الخلاص، من براثن الإخوان، ومن معهم من عشيرة الإرهابيين، أن ينحاز جيش شعب مصر، لشعب مصر، أو بعبارة أدق، أن يلبي الجيش أوامر الشعب، وفاءً للقسم بالولاء "المجرد" للوطن.. الوطن فحسب.
ولربما -كما يردد الذين في قلوبهم مرض- يرجع ما بدر من استجداء الكردوسي الطغيان، وتوسله البطش، وتوقه إلى دولة القمع، إلى أنه مصاب بعلة نفسية ما، كما علة الماسوشية، التي تدفع المرضى، إلى الترحيب بالصفعات على أقفيتهم، أو بالعامية "قفيانهم"، وهم يتلذذون بالألم، وعندئذ ليس إلا أن نسأل الله له، شفاءً لا يغادر سقمًا، عسى أن يتقبل، في الشهر الكريم.
وإذا كان الكردوسي في مقال ثانٍ، عنوانه "في وصف ما يسمى فهمي –لامؤاخذة- هويدي"، قد خرج عن اللياقة، حين هاجم شخص –لا أفكار- الكاتب الكبير، جراء ما يتفيهق به، من تبريرات فجة، لجرائم الإخوان، فهذا قد يكون شططًا، مبعثه الصدمة التي تعتري الكثيرين، إذا يقرؤون أستاذًا كبيرًا، بقامة هويدي، فيأسفون على مفكر، صار يحدوه الهوى، فإذا هو يقتطع المعلومات من سياقاتها، ويجتزئ التفاصيل المبتسرة، فيقلب الحق باطلا، والباطل حقًا، للدفاع عن دولة الثيوقراطية الدينية، التي سقطت قبل أن تتمكن، من مصر.
لكن ما لا يبرر أو يستساغ، هو ذاك المقال، القميء الفاشي المتوحش، الذي خطّه "الكردوسي"، تحت عنوان:" "مرتزقة 25 يناير"، وفيه يطلق الأحكام الحاسمة، الصارمة، العارمة، القاصمة، على الثورة، فيقضي بأن يناير، لا تعدو أن تكون "حصان طراودة"، الذي اختبأ الإخوان داخله، "للنط" على عرش مصر، أما يونيو، فهي ثورة تباركها السماء، بيضاء تسر الناظرين، أو هي عصا موسى التي ألقاها، ثوار يونيو، فأخذت تلقف، ما كان السحرة يأفكون.
هكذا.. يبدو الكردوسي، كمن أوتي مجامع الحكمة، ومفاتيح البيان، وفتح الله عليه، فتوح العارفين، وصار قاضي القضاة، والمؤرخ الأكبر، وعالم الاجتماع السياسي، الذي لا يشق له غبار، ولا يجدع له أنف، فيحرّم ويحلل، ويفتي بأن هذا غث، وذاك ثمين.
يناير مؤامرة، ويونيو ثورة.. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وإن عارضتني "سأشرشح" كرامتك في مقال، من "اللامؤخذيات الكردوسية" التي لا تخلو مفردات قدح وذم فاحشة، وضربات فوق وتحت الحزام.
هكذا تتكردس، الاتهامات، وتتجمع الأفكار، دون ترابط منطقي، فيما بينها.
وبما أن الشيء بالشيء يُذكر، فإن الفعل "يُكرّدس" في المعجم، يأتي بمعنى يسوق الحمار، سوقا عنيفا، وهذا معنى، خارج السياق، "على الأرجح"، أما ما في السياق، فهو أن "يكردس" تأتي أيضًا بمعنى، جعل البضائع كومة فوق كومة، الأمر الذي يغري بأن نسأل "الكردوسي"، عن سر "كردسة" الاتهامات إلى كل رموز يناير، بعد أن كتب في الثوار مدائح، ترقى لأن تكون معلقات، تُخط بماء الذهب، وتوضع على أستار الثورة؟
هل تغير رأي "الكردوسي" في "العيال الأنقياء" السباقين إلى المجد، الذين تخرج الشمس من بين أصابعهم؟
في تفسير "كردسة الكردوسي"، ثمة خبثاء يذهبون إلى أن الرجل، صبُ فراقٍ لعبت به الأشواق، ماج الهوى في قلبه فأصابه، والحب ما لأسيرِه إطلاق، وهو يعلم بأن المؤسسات الصحفية القومية، بصدد زلزال، سيجتث "فلول الإخوان"، فسال لعابه، على مقعد وثير، في هذه المؤسسة أو تلك.
و"يكردّس" الخبثاء التحليلات، فيذهبون إلى أن الكاتب المرموق، يعرف وجهة الرياح، ويعي أن يناير صار "موضة قديمة"، وهذه أيام "يونيو" حيث موضة النصف كم والشورت للرجال، وفوق الركبة للنساء.
هجوم "الكردوسي"، على الثورة التي ستبقى ثورة، رغم أنفه، وأنف العائلات العُكاشية، وما على شاكلتها، من الكائنات المخاطية، من رتبة الفلول، الواقعة بأدنى درجات سلم الارتقاء، إلى جوار رتبة الإخوان، وتربصه بكل رموز ثورة يناير، يدفعنا إلى أنه نقترح عليه، أن يغزو قبور الشهداء، قبرًا قبرًا، فينبشها نبشًا، ويلعن ساكنيها لعنات أبدية، لأنهم شاركوا في المؤامرة الإخوانية، ولا فرق، بين الشيخ عماد عفت، أو مينا دانيال.. فالمآقي التي انطفأت على نظرة أخيرة، لسماء وطن ينشد الحرية، والحناجر التي هتفت: "عيش حرية عدالة اجتماعية"، قبل أن تسكت إلى الأبد، والأيادي التي ما أسقطت الراية، إلا بعد أن توقفت الدماء في شرايينها، ليست تدمي ضميره، ولاتستثير في قلبه الأسى، ولاتوجع نفسه، وهو يمحو بجرة قلم نضالهم، ويحطم ثورتهم.. فالكردسة شعار المرحلة!