في الفترة الأخيرة، أتيحت لي الفرصة لكي أقضي بعض الوقت على الإنترنت، وعلى صفحتي في الفيس بوك، في هذه الفترة أيقنت أننا لا نعيش في مصر واحدة، وإنما في أمصار متعددة. هناك مصر سكان التجمع الخامس والقطامية في القاهرة، وبفرلي وبالم هيلز في الجيزة، ومصر سكان قمن العروس في بني سويف، والدويقة ومقابر البساتين.
هناك مصر المدارس الدولية والجامعة الأمريكية والألمانية، ومصر المدارس والجامعات الحكومية ومعاهد الدبلوم.
هناك مصر ذات النصف مليون حاصل على الدكتوراه، والمليون ونصف ماجستير، ومصر ذات الثلث الأمي، الذي لا يفك الخط.
هناك مصر مترو وألفا ماركت وسبينيز، ومصر سوق الحرامية في الإمام، وسوق التلات وسوق الجمعة في قرى الفيوم وسوهاج.
هناك مصر المستشفيات الاستثمارية ذات الخدمة الفندقية المتميزة، وهناك مصر مستشفى البدرشين وبولاق الدكرور والوحدات الصحية المهملة، التي ليس بها من دواء إلا الأسبرين ومزيج الراوند..
هناك مصر الجبن البارميزان والريكوتا، ومصر الفول والجبنة القريش والمش بالدود.
هناك مصر النخبة (المثقفة) الذين تتطلع إليهم الأنظار أينما حلوا، ومصر المهمشين المنسيين المتكئين على كتف المقادير، لعلها تمنحهم أساسيات الحياة.
هناك مصر السلفية الملتحية المنتقبة، المتصوفة في مقام سيدي عبد الرحيم القناوي، ومصر المتحررة من كل القيود في الغردقة والسخنة وسيدي عبد الرحمن الهاسيندي.
هناك مصر البي إم والمرسيدس وعربات الدفع الرباعي، ورفاهية الطائرات الخاصة، ومصر الكارو والتوك توك والأوتوبيس العام والميكروباص، وتهالك قطارات الدرجة الثالثة.
في هذا الخضم الهائل من التناقضات قامت الثورة في 2011، وفي ثمانية عشر يوما؛ وياللغرابة؛ تخلى الرئيس عن منصبه، وأوكل للجيش إدارة شئون البلاد، والله (الموفَّق) والمستعان، وضرب الشعب المصري (الثائر) المثل للعالم كله أيام الثورة في التلاحم والتآزر.
بعدها بعدة أسابيع بدا شبح انقسام آخر في بنية الشعب المصري، أضيف إلى انقساماته؛ الانقسام السياسي؛ فلول.. إخوان.. سلفيون.. وسطيون.. علمانيون.. ليبراليون.. أناركيون.. آسفين يا ريس.. أقباط المهجر.. ناصريون عائدون.. يساريون.. ولا تمتلك أي من هذه الجماعات والفصائل قاعدة شعبية عريضة إلا اثنتين؛ الإخوان والسلفيون، وأصبح لزاما على النخبة (المثقفة)، خلا هذين الفصيلين إثبات وجودها في الشارع، وهنا برزت المشكلة التي لا أرى لها حلا في المستقبل القريب؛ كيف تقنع شعبا بهذا التنوع والتباين الذي يصل إلى حد التناقض؛ بأن يتوافق ؟ كيف تطلب من شعب يعيش هذه الحالة الحادة، من الانقسام السياسي والطائفي والمذهبي والاجتماعي والاقتصادي، أن يتوافق على رئيس ؟ أو دستور أو وزارة ؟ أو رأي ؟
إن الثورة الفرنسية قامت في 1789، وانتهت 1799 بتولي ضابط الجيش نابوليون السلطة بانقلاب عسكري، ليصبح إمبراطورا لفرنسا، ولكن الثورة أسست لما يُستقبَل من الزمان حتى يومنا هذا، وكانت فترة العشر سنوات فترة مترعة بالاضطرابات والصراعات، والتدهور في كل مناحي الحياة الفرنسية، تماما كما هي الحال في الشارع السياسي المصري الآن..
هذه الحالة الحادة من الانقسام في مصر، ترى أماراتها واضحة على صفحات الفيس بوك، وبخاصة إن كان لديك العديد من الأصدقاء، تأتيك مشاركاتهم على صفحتك الرئيسية، وبعد عدة ساعات من (الفَسبَكة)، تكتشف الحقيقة الصادمة، إن كل هذه الآراء التي قرأتها واطلعت عليها وشاهدتها لا تعبر إلا عن نسبة لا تتعدى خُمس الشعب المصري، أما الأخماس الأربعة الأخرى، فهي تمثل من ذكرتهم لحضرتك في أول المقال، هم سكان المقابر والعشوائيات، هم الفقراء الذين لا يجدون ما يقتاتون به إلا الجبن القريش والمش بالدود، هم من لا يجدون علاجا لأمراضهم المزمنة إلا الأسبرين، هم المنسيون في ريف مصر وحضرها، في عشوائياتها ومناطقها النائية، ولا يتطرق (الفيسبوكيّون) إلى أحوالهم ومعاناتهم وقسوة حياتهم..
لذلك نستطيع أن نضيف مصرا أخرى إلى أمصارنا المتعددة؛ مصر الفيسبوكية.. إسلمي يا مصر.