هل نستطيع أن نعزل الشريط المرئى عما يجرى على أرض الواقع. العمل الدرامى لا يقدم فقط الحقيقة ولكنه يخاطب جمهورا لديه قناعات ومواقف مسبقة، لا أعتقد أن التوقيت الآن ملائم نفسيا أو موضوعيا. الأحداث تتلاحق ولا يمكن أن تعثر على خط ثابت لتبنى من خلاله موقفا دراميا. إجبار مبارك مثلا على التنحى كان من الممكن أن يتحول إلى ذروة، إلا أن ما تلاها من أحداث جعل حتى الفضائيات التى تُقدم الخبر الطازج لحظة بلحظة غير قادرة على الملاحقة بعد أن خُلقت ذُرَى أخرى، الناس لم تعثر على الخط النفسى الفاصل، هل يتوقف المؤلف الدرامى عند هتاف «يسقط مبارك»، أم ينتقل إلى «يسقط حكم العسكر»، أم إلى «يسقط حكم المرشد»، أم ينتظر هتافا آخر. كيف نُطل على الحدث بينما الصورة تتغير، صحيح لن يُصبح أىٌّ من هؤلاء بطلا ضحَّى بالكرسى لإنقاذ شعبه، فكلهم جناة امتصوا مقدرات شعوبهم، ولكن تفاصيل الصورة قابلة للتغيير تبعا لما تُسفر عنه المحاكمات الدائرة الآن وأيضا الواقع الذى تحياه الشعوب بعد خيبة أملها فى ثورات الربيع.
قبل أسابيع قليلة من الثورة كان جهاز السينما التابع لوزارة الإعلام يعد فيلم «الضربة الجوية» يكتبه عاطف بشاى ويخرجه على عبد الخالق وبطولة أحمد شاكر. بالتأكيد كان الفيلم يمجّد مبارك فالكل كان يردد أن حرب أكتوبر تساوى الضربة الجوية وأن الضربة تساوى مبارك، لم يكن الأمر متعلقا فقط بسلاح له كل التقدير والاحترام ولكن قائد سلاح أراد أن يستحوذ بمفرده على الانتصار. كانت قبضة الدولة تسمح لها بفرض هذا العمل والمؤكد أنه كان سيواجَه برفض جماهيرى رغم نفاق متوقَّع من الدائرة الإعلامية والثقافية الرسمية تعوّدنا على مؤازرتها كل ما يصدر عن السلطة الحاكمة. مشاعر الناس تغيرت 180 درجة تجاه مَن صنع من نفسه بطلا منفردا لانتصار أكتوبر إلا أنها ترى الحاضر بعد الإطاحة به وهو ينذر بالعديد من المخاطر القادمة بينما هذا الطائر الذى أطلقوا عليه النهضة لا يزال محلقا ونسمع نعيقه.
ليس لدينا كادر وصورة ثابتة نستطيع أن نبنى من خلالها رؤية لعمل فنى متكامل. تقديم فيلم أو مسلسل عن الثورة بتفاصيلها مغامرة غير مأمونة العواقب، هناك العديد من التفاصيل لا يمكن ببساطة كشفها، مَن هو مبارك؟ بالتأكيد ليس الذى رسمت أجهزة الإعلام صورته «اخترناه اخترناه واحنا معاه لماشاء الله». الناس هل تتقبل مبارك المدان أم القابع الآن فى المستشفى أم الذى لا يزال ينتظر ما يسفر عنه موقفه القانونى؟ الثورة لم تنته والناس التى تعلقت أحلامها البسيطة بالكثير من الآمال تبددت على واقع ينبئ بكثير من السحب السوداء. لسنا بصدد ثورة 23 يوليو التى أنجبت مثلا «رُدّ قلبى» وتوابعه «أنت من الأحرار يا على» و«الأميرة إنجى» و«السفرجى إدريس» و«الجناينى حسين رياض» الذى فقد النطق ثم هتف مع نهاية الأحداث تحيا مصر. المصريون على أرض الواقع صاروا منقسمين لا يرددون تحيا مصر، بل نداء «يسقط» لا يزال يسكن الحناجر والقلوب.
ربما يعتقد البعض أنه من الممكن أن يقدم دراميًّا مبارك والفساد والتوريث قضايا لا شك ساخنة، مَن يريد أن يدافع عنه يقول إنه آخر من يعلم خصوصا أن الحكم ضد مبارك ليس نهائيا وليس مستبعدا أن يحصل على براءة من تهمة قتل المتظاهرين وربما لا تتمكن جهات التحقيق من إثبات عشرات من قضايا الفساد وقد تتجه شحنات الغضب إلى كل من سوزان وجمال ويخرج علاء منها باعتباره لم يكن لديه طموحا سياسيا مثل أخيه. الشاشة الدرامية ليست منعزلة عما يجرى فى الشارع ولا يجوز أن يتصور أحد أن الشخصيات الدرامية هى ملك لصاحبها لأنها ليست خيالا محضًا فكل منّا لديه صورة ذهنية ولديه أيضا قناعاته.
أنا شخصيا لا يمكن أن أصدق عملا فنيا يقول إن مبارك لم يكن يسعى لكى يسلم مفتاح مصر لابنه، جميع أفراد الأسرة والدائرة القريبة كانوا يمهدون لساعة الصفر.
عمل درامى يقدَّم بعد عامين من الثورة سوف يخرج مبتسَرًا لأن الحقيقة لم تكتمل والوثائق لم تعلَن والصورة حتى الآن تتشكل على شاشة الواقع.. فلا وقت للدراما.