تُعد لوحة "وصيفات الشرف" إحدى أعظم الأعمال التشكيلية في تاريخ الفن العالمي، وهي من أكثر اللوحات التي أثارت الجدل حول غموضها وغرابتها. تُعتبر هذه اللوحة من أشهر أعمال الفنان الإسباني دييجو فيلاسكيز، وتحتوي هذه اللوحة على تقنيات استثنائية وبراعة في استخدام الإضاءة، وهي توجد في صالة عرض متحف برادو في مدينة مدريدبإسبانيا. اللوحة رُسمت بالألوان الزيتية على القماش، وتظهر فيها غرفة في قصر الملك فيليب الرابع -ملك إسبانيا في الفترة بين 1621 و1665- حيث تبدو ابنته أنفانتا مارجريتا بصحبة وصيفاتها في حضور قزمين وحارس وكلبها الراقد على الأرض، فيما يبدو فيلاسكيز نفسه واقفا وهو يقوم بالرسم، ويظهر منهمكا في الرسم ومرتديا ملابس محاربي القرون الوسطى، ويحمل بيده اليمنى فرشاة مجمدة في الهواء وبالأخرى رقعة الألوان، وقد عمد فيلاسكيز إلى إخفاء اللوحة التي يرسمها عن الأنظار. وتظهر في وسط الجدار الخلفي ثمة مرآة تعكس صورة الملك والملكة، وإلى يمين اللوحة في الخلفية يبدو حاجب الملكة كما لو أنه يهم باستقبال زوار قادمين، وهناك وصيفتان تظهران في وضع انحناء دليل على احترامهما وتقديرهما للأميرة الصغيرة التي ترتدي فستانا واسعا ومزركشا، ومع ذلك فإن الأميرة ووصيفاتها يظهرن كالدُمي أو كالتماثيل الشمعية مقارنة بالحضور الطاغي والقوي الذي يفرضه الفنان على المشهد بأكمله. وقد رُسمت اللوحة من زاوية نظر الملك فيليب الرابع، بحيث يبدو من يشاهد اللوحة أن الشخصيات المرسومة هي التي وضعت كي يتم رسمها من زاوية الملك والذي كان جالسا برفقة زوجته ماريانا (1634-1696)، حيث يبدو الجزء العلوي من جسدي الملك والملكة في صورة تكاد تختفي في مرآة صغيرة في وسط اللوحة. اعتبر معظم المُحللين ونقاد الفن هذه اللوحة لقطة تصويرية واقعية، ووصفوها بأنها من أروع ما رسم فيلاسكيز، كما أطلق عليها الرسام الإنجليزي توماس لورنس لوحة "فلسفة الفن"، وهناك من اعتبرها في منزلة متقدمة عن لوحة الموناليزا في غموضها. ولد دييجو رودريجز دي سيلفا إي فيلاسكيز في 6 يونيو عام 1599 في مدينة إشبيلية بإسبانيا، وتوفي في 6 أغسطس عام 1660 في مدينة مدريد، وهو يعتبر من أبرز رسامي العصر الذهبي الإسباني، ومن أشهر فناني الأسلوب الباروكي، وقد عاش فيلاسكيز سنوات حياته الأولى في أوجّ عصر النهضة في أوروبا، في نفس الفترة التي كان يعكف فيها كل من سيرفانتيس وشكسبير على كتابة أعمالهما الإنسانية العظيمة. واعتبره بيكاسو ومانيه أهم وأعظم رسام إسباني على الإطلاق وأحد أعظم الرسامين في التاريخ، وقد كتب بيكاسو عدة دراسات عن هذه اللوحة ورسم سلسلة من اللوحات التي تعطي "وصيفات الشرف" تفسيرات متعددة. عُرف عن فيلاسكيز مهارته الفائقة في مزج الألوان وتعامله المبهر مع قيم الضوء والكتلة والفراغ، وقد رسم هذه اللوحة في قصر الكازار في مدريد عام 1656، حيث كان يعمل رساما أول في بلاط الملك فيليب السادس ورئيسا لتشريفات القصر. كما عُرف أيضا عن فيلاسكيز تواضعه وتعاطفه الكبير مع الفقراء والمهمشين، واعتنق في شبابه الأفكار الديمقراطية والإنسانية وقد تعززت لديه تلك الأفكار أكثر عندما دخل دائرة المجتمع الأرستقراطي الذي عرف بانغماسه في الملذات. وعن البُعد الإنساني والاجتماعي في تلك اللوحة، نجد أن فيلاسكيز كان يقارن بين حياة الترف المبالغ فيها تلك بالمعاناة الشديدة التي كان يكابدها عامة الشعب، ويبدو أن أحد الأسباب المهمة في شهرة هذه اللوحة يعود إلى غموضها الذي لم يزل يتحدى حتى الآن أكثر النقاد قدرة على قراءة الأعمال الفنية وتفسيرها. ونظرا لتعقيد وغموض اللوحة وتعدد المعاني التي قد تُستوحى من الشخصيات المرسومة فيها وزوايا الرسم، صارت هذه اللوحة إحدى أكثر الأعمال الفنية التي تم الإشارة إليها على نطاق واسع في تاريخ الفن، ومنذ أن رسمها فيلاسكيز قبل 3 قرون ونصف وهي تحتل مركز الصدارة في كل القوائم المخصصة لأفضل الأعمال التشكيلية في العالم. وقد عُرفت لوحة "وصيفات الشرف" بحجمها الكبير وإتقانها الفني الذي ينافس أعظم اللوحات وبمئات التحليلات النقدية التي تناولتها، كما ناقش كتاب كثيرون الأسرار البصرية المغرية التي تختزنها هذه اللوحة داخلها، وتناولوا الأسلوب الطبيعي الشفاف الذي رُسمت به بالرغم من غموضها، وقد تأثر بها عدد من الرسامين العالميين وتنافسوا في تقليدها منهم: بيكاسو ودالي وجويا. وقد أجمع المؤرخون على اعتبار هذه اللوحة أعظم تحفة فنية أنتجها العصر الذهبي للفن الإسباني، وامتدحها الكثيرون باعتبارها محصلة لإبداع الفنان وسعيه الدائم لبلوغ مكانة اجتماعية عالية في إطار ثقافة لم تكن تتعامل مع فنانيها بما يكفي من التقدير والاحترام. وتثير هذه اللوحة العديد من التساؤلات في عقل كل من يشاهدها فتجد نفسك تتساءل: ما الذي كان فيلاسكيز يريد إبرازه على وجه التحديد من خلال هذه اللوحة؟ وما الذي كان يرسمه في اللوحة التي أمامه.. هل كان يرسم نفسه أم صورة الملك والملكة المنعكسة في المرآة المعلقة على الحائط؟ وهل كان فيلاسكيز يتعمد جعل المشاهد أهم من اللوحة وأبطالها وعناصرها المختلفة، أم أنه أراد أن يظهر أن شخصيات اللوحة ليست أكثر من مجموعة من الأفراد الافتراضيين الذين لا وجود لهم سوى في عقولنا؟ ولماذا رسم الأميرة والوصيفات في مرسمه وبين لوحاته ولم يرسمهن في إحدى قاعات أو أروقة القصر الفخمة مثلما كان يفعل الفنانون في هذا العصر؟
لوحة وصيفات الشرف * دنيا الأدب اضغط على الصورة لمشاهدة الجاليري: